السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بطولة انقلترا: مانشستر سيتي يكتسح ليفربول بثلاثية نظيفة    الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا يفتح باب التسجيل للمشاركة في النسخة الثانية من برنامج "تبنّى شاطئاً"    مدير "بي بي سي" يقدم استقالته على خلفية فضيحة تزوير خطاب ترامب    هل نقترب من كسر حاجز الزمن؟ العلم يكتشف طريقاً لإبطاء الشيخوخة    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    قابس: حريق بمنزل يودي بحياة امرأة    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صَرْخَةُ الوَجَعِ الأمَضّ: مَن يَفْتَدِي سوريّا؟ في "الرُّخام يبتَسِمُ لِأصابِعي" ل"هادي دانيال"
نشر في حقائق أون لاين يوم 22 - 07 - 2015


-1-
تَتَكثَّرُ الحالُ الشِّعْريّةُ بِضَرْبٍ مِن التّكرارِ النّاتِجِ ،رُبّما ، عَن انْحِباسِ الوضْعِ ، إذْ لِلرُّخامِ دَلالةُ الجُّمودِ الثّقيلِ حَدّ إنْهاكِ الرُّوحِ وإنْ تَمَدَّدَ لِيَدْلَهِمَّ أو يَلْتَمِعَ أثْناءَ اللّيلِ وآناءَ النّهار، كَكُلِّ الأشياءِ النّاعِمَة الذّابِحَة حَقِيقَةً أوْمَجازاً فَيَتَشَبَّهُ للذاتِ الشَّاعِرة كائناً عاقِلاً مُقْتَدِراً على التَّفاعُلِ بالابتِسامِ مُخْتَصَراً في الأصابِعِ باعْتِبارِها جُزْءاً يَتّخذُ لَه صِفَةَ الكُلِّ في لحظةِ الكتابةِ ، كَفائضِ الرُّوحِ تَتَجَمَّعُ كَثافةً في التُّخُومِ القَصِيَّةِ لِهذا الجّسَدِ المُسْتَنْفَر بِمُجْمَلِ قُواهُ الحِسِيَّة والعَقْليّة والتَّخْيِيلِيَّةِ والحَدْسِيَّةِ.

كَذا تَبْدو المُجاوَرَة السِّباقِيَّة الدّالّة شِعْراً بين الرُّخامِ والابتِسام والأصابع تَخْصِيصاً بالضَّمير المُفْرَد المُتَكَلِّم يُعلن منذ العلامة اللغويّة الأولى (عنوان المجموعةِ الشعريّة الرئيسيّ) عَن حالٍ مِن الدَّوَران داخِلَ مكان وزمان شبْه مُغْلَقَيْن مُحَدَّدَيْن بِمَوْقِعٍ "رُخامِيّ" ثقيل ضاغِط على النَّفس. وكأنّنا بِقصائدِ هذه المجموعةِ الشِّعريّةِ نَشْهَد استِمْراراً في نَهْجِ قصائدِ "في وَضَحِ الرَّدى أُراقِص الجِّبالَ"(2014).
إنّهُ الشُّعُور الحادّ بالارتعاب والغضب والتّمَرُّد أيضاً على كُلِّ شيءٍ وبالاشمِئزاز مِمّا يحدث هُنا أوهُناك ، في المكان القريب(تونس)أو البعيد مُعايَشَةً (سوريّا) ، ويصِل هذا الاشمِئزاز إلى أشَدّ حالاتِهِ بالقَرَفِ الهازئ السّاخِطِ يطفو مِن عميقِ النَّفسِ قَلَقاً مُمِضّاً.

-2-
المُنطَلَق في هذه المجموعة الشِّعريّة لحظة عِشْقِيَّة تبدو استِثْنائيّةً ، لحظة "الغريب" المسكون حَدَّ الهوَس بمَحَبَّةِ سوريّا ، لحظة التّماهِي بينَ حَبيبَةٍ والحبيبة ، بينَ ما يَتَجَسَّدُ وما يَتَجَرَّدُ، بينَ أنتِ -المرأة وأنتِ - البلاد المائلة في عميقِ الرُّوحِ ، دِمَشْق ، الرُّوح-الرّمْز الدّالّ على مُجْمَلِ الوَطَن.
وإذا أفعالٌ دالّة في الظاهِر على حَركات (أتَنَقَّلُ ، أمْضَغُ ، ألْحَسُ، أشْتَمُّ ، أقطف ، أغرَق...) تَشِي بِحالٍ مِن العشْقِ القديمِ الحادِثِ ، عشْقٌ أزَلِيّ يَتَعَدّى حُدودَ الجسَد والمكان والزّمان، حالٌ مِن تَيَقُّظِ كُلِّ الحَواسّ دُفْعَةً واحِدَةً بِتَداخُلٍ حَرَكِيٍّ مُنْتَشٍ حالِم :
"أتَنَقَّلُ كالنَّحْلَةِ العامِلَهْ
بَيْنَ أزْهارِكِ الجَّبَلِيَّةِ ..."*
وإذا مَرارَة الفَمِ هِيَ مِن مَرارةِ الرُّوح المُتَوَجِّعَة بِفائضِ الألَمِ وفائضِ الارتِغاب (مِن الرّغْبَة) في السِّياقِ ذاتِهِ لِتَتَعالَقَ بذلك الدَّوالُّ المُتفارِقةُ ، كالماثِلِ دَلالةً بين المرارة والحلاوَةِ ، بين الذّبولِ والغَضاضَةِ ، بين الوَجَعِ والرّغبة ، بين الرّعشةِ والنّشوَة ، بين الخوفِ والتّمَرُّدِ ، بين َالانطِواء والانكِشاف...
هِيَ لحظة عِشْقيَّة لا كَغَيرها مِن اللحظات السابقة لِكَوْنِها تُزامِنُ رَمْزاً بين جَسَد أنثى ورُوح مَعنى اتَّخَذَ له عنواناً مَخْصُوصاً بِسُوريا الوطَن ، بَل هُو التّماثُل ، تقريباً ، بين المَخصُوصِ الواقِعِيّ وَمُطْلَق المَعْنى ، حتّى لكأنّهما مِن أصْلٍ واحِدٍ مِمّا يُحْدِث إرباكاً في منظومةِ استمرار الوضع والحال المُلازمة له وَجَعاً ، قَلَقاً ، يأساً ، أمَلاً ، انْطِواءً ، انْتِشاءً ...
إنَّ للعِشْقِ ، هُناتَحديداً ، دلالة الحِلِّ أثناءَ التّرحال أو هُو الحِلُّ الذي يُراد به إعطاء التّرحالِ مَعْنى آخَرَ حادِثاً يُذهب عنه الكثير مِن المللِ الناتِجِ عن الاستقرار مَكاناً واضطراب الوِجْهَة كياناً.
إلّا أنّ صِفات العاشِقِ هي ذاتها في مُجمل الحال : هشاشة ، سأم ، تَشَرُّد عاطِفيّ ، بحْث دائم عن وطَن واعتِراف حدّ الهَوَس بالوَطَن ، ارْتِغاب آسِر بَدْؤهُ "كَفَرْيَة" وأطواره أوطانٌ أخرى وأوطانٌ بدافِعِ الحرّيّة وجَاذِب الرّحمِ الأوَّل المَسكُون بِجُرْحِ فلسطين ، انْطِواء اضطِراريّ حِيناً واخْتِيارِيّ حيناً آخَر أوْ ذاك المُلتبس حالاً بين فِعْلٍ إرادِيّ ونَقيضه :
"كيفَ وحدي
ومازلْتُ وَحْدي
إلى أن تُنادِمَنِي المَقْبَرَهْ"(ص18)
-3-
سُؤالُ المَكان هو ، لاشكّ ، مِن سُؤالِ الكيان ، وكذا العَكس ، إذْ لا إمْكانَ للاستِمرارِ في الاستِرجاع أو الاسترهان (مِن الرّاهِن) ، ولا إمْكان أيْضاً للاستِباق مادام التَّغالُب على أشَدّه بين وَطَنٍ مَنْشُود لا يتحقّق الوصول إليه والوطن ، بينَ ارتِغاب يَسْعى إلى الارتواء ولا رُواء ، بين أن يكون الشاعِر أو لايكون :
"ياكَوْن ، ياروحهُ
إذَا لم يكُن وَطَنِي
كَيْفَ لِي أن أكُون؟"(ص29)
فالوطَن بالتعريف (وطنِي) ثابتٌ مُتكرّر في مسارّ تجربة هادي دانيال الشِّعْريّة وإنْ تَغَيَّرَتْ الأَمْكِنة والأزمنة ، كما أنّ حلم الشاعِر بالحرّيّة ثابتٌ دلاليّ مُتكرّرٌ آخَر لايَتَعارَضُ ومَعْنى وَمَفْهُوم الوَطَن ، لأنّ حلم الحرِّيَّة هو الذي يُكْسِبُ الوطنَ أبعاداً دلاليّة أوْسَع وأعْمَق ، شأن المُسافِر يُهاجِر بعيداً عن الدّيار مَحَبَّةً لها وإيثاراً للغُرْبَةِ على الاغتِراب.
وكأنّ الغربةَ التي أنْقَذَتْ الشَّاعِرَ مِن عَذابِ الاغْتِرابِ استَحالَتْ في الّلاحِقِ وعنْدَ الذي حَلَّ بِسُوريّا مِن أذى أبنائها العاقِّين والأغْرابِ الأعْداء إلى ما يُشْبِه الإحساسَ العميقَ الدّامِي بالذَّنْب مِن غَيْرِ إثْمٍ عَدا التّرحالِ عن الأهلِ والدّيار نُشْداناً لِحُرِّيَّةِ الإنسانِ في أن يكونَ فَرْداً مُخْتَلِفاً عن الجماعةِ تَوَّاقاً إلى الحياةِ المُتَجَدِّدَة مُناضِلاً مُبْدِعاً بالكِتابَةِ ، وبالشِّعْرِ مِنْها ، على وَجْهِ الخصوص.
فهذا الإحْسَاس ، وإنْ لم يَرِدْ صريحاً في قصائدِ "الرُّخام يبتسِم لِأصابِعي" وسابِقاتِها ، ومُنذ "ربيع مُتأخِّر" (2011) ثُمَّ "خَريف مِن أجْل حَطَّبِيّ السّماء"(2012) و"عندما البلاد في الضّباب والذّئاب"(2013) و"في وَضحِ الرَّدى أُراقِصُ الجِّبال" (2014)، فَهُوَ ماثِلٌ في الخَفايا والطَّوايا بِما قد يَعْنِي إخْفاءً غَيْر مُتَعَمَّد ، شأنَ الكِتابةِ الشعريّة والأدبيّ والإبداعِ الفنّي ، نسْبَةً إلى الفنونِ عامَّةً ، تَنْكَتِبُ ، كأن تُنْجِز ذاتها أحياناً لِتَرْتَدّ على مُبْدِعِها مِثْلَ مِرآةٍ مُعْتِمَة عاكِسَة لا يُمكِن تَمَثُّل طَيْف المَعْنى بِها إلّا لِمَن امْتَلَكَ دِينامِيَّةَ الاقتِراب والابتِعاد بِفِعْلِ القِراءة والتأوُّل المَشروط بِمَا قد يُرى لدى الذاتِ القارئة وما لا يُرى عِنْد الذاتِ الكاتِبَة شِعْراً إلّا إذَا ما استَحال المَكتوبُ إلى مَقروءٍ للشَّاعِرِ المُتباعِدِ عَن نَصِّهِ.
ذلكَ ما يُفَسِّر ، حسب تقديرنا ، فرط الخوف على الوطن - سوريا، كشعورِ ابْنٍ بالتّقصيرِ تجاه أمٍّ لَطالَما سَكَنَتْ عَمِيقَ رُوحِهِ لِيُغْدِقَ عليها مِن وَفِيرِ عِشْقِهِ بَعْدَ أن اغْتَذى مِن دِفْءِ أحضانِها وَفائض حَنانِها.
شُعورٌ يبدو مُلتبسا عند تردّده بين المُعلن والُمحتجب الدّلاليّيْن ، بين سوريّا الأمّ والأمّ في سوريّا بَعْدَ فقدانِها الأبَدِيّ ، كالوارِدِ في إحْدى قصائدِ "في وضح الرّدى أُراقِص الجّبال".
فَمايلفت الانتباه عند قراءة قصائد الشاعر الأخيرة الاهتِزاز النّفْسِيّ العنيف الناتِج عن التَّزامُن بين الدَّمار الذي لحِقَ بِسوريا ورحيلِ الأمّ الأبَدِيّ حتّى لكأنَّ فطاماً أمَضّ وَجَعاً بَعْدَ المَشيمة والرّضاع يحدث للشاعر هُو فطام الحياة ذاتها الذي يتراءى له إنذاراً بِمَوْتٍ قادِم ، مَوْت الرَّمْز الأهَمّ قَبْل أن يحدثَ المَوْتُ البيولوجيّ.
ذلكَ ما يُفَسِّر اليأسَ أحياناً.
-4-
إلّا أنّ اليأسَ الّذي نَرى في "الرُّخام يبتسِم لِأصابِعي" هُوَ حالٌ عارِضَة ، كأن يتفاقَم حِيناً وَيتَضاءلُ أحياناً لارتِباكِ الحالات ، كالتَّغَنِّي ببطُولةِ "زينب سليمان" الشهيدة ، إرْث طرطوس الكِفاحِيّ ، والمُهْرَة "تصهل فيشَوارعِ البَلَدْ:
مَن يَفْتَدِي سوريّا؟"(ص37)، وكالجسدِ يكتَظُّ بالرّغبةِ رغم الانكِساراتِ رافِضاً التسليمِ بِواقِعِ العَجْزِ ، مُتَشَهِّياً عبْر زُجاج النُّزُل المُطلّ على الشارعِ النساء الجميلات العابِرات ، وَكَمَطَرِ اللاذِقِيَّة يُعِيد للذاكِرة ألَقَها القديمَ فَتَسْتَبِين بَعْضاً مِن الصُّوَر المُعْتِمَة ، وَيَغْمر الماء ، شأْن الأمَل ، المكانَ والزَّمان.
وكذا الحال الشِّعْريّة تَبْدو مُتَجاذَبَة بين الأمَل واليأس بينَ ماضٍ وحاضِرٍ ، إذْ تُقِرُّ في راهِنِ الوُجُود ، رغم الأمل الّذي لا ينقطِع ، واقِع جَسَد مُنْهَك :
"ما عَادَ في القلبِ خَزَّان مِن النَّبْضِ
ما عادَ في ساقَيَّ شَوْقُ جَوادِ عاشِقَةٍ إلى الرَّكْضِ"(ص45(.
هذا الشُّعور الحادّ بالعَجْز يحتدّ في قصائد هادي دانيال الشعريّة الأخيرة عنْد وَصْف الجسَد تحديداً الّذي أضْحى مُنْهَكَاً بأثْقالِهِ نازِفاً بأوْجاعِهِ ، فيتألَّم لِذاتِهِ وسوريّة وفلسطين . بالأمْس كان الجّرح النّازِف بِفِلَسطِين لِوَحْدِها فأضْحى الجُّرْح أشَدَّ نَزْفاً بِكُلٍّ مِن سوريّةَ وفلسطين وبكافّةِ أوطانِ العَرَب المُسْتَباحَة.
إلّا أنَّ البَوْحَ بالوَجَعِ لا يَعْنِي استِسْلاماً بل إصْراراً على المُغالَبَةِ حَدَّ تَمَنِّي المَوْت بِفائضِ العشْق:
"هذي بِلادِيَ يا الله قَدْ ذُبِحَتْ
خُذْنِي لِتَحْيَا
فِدَائيَّ القَرابينِ..."(ص49)
الرغبة في الحياة ، إذَن ، لا تَتَجَمَّد ، والحال الشعريّة نراها تَتَجَدَّد بالانطِواءِ حيناً والاندِفاعِ أحياناً ، باليأسِ المُخْصِبِ أمَلاً ، وبالأمَلِ يَعْلو في سماءِ الرّغْبَة مُتّحدّياً كُلَّ العَذابات مُلْتَذَّاً بِآلامِهِ المُمِضّة ، المُتَصَوِّف بَلَغَ بِهِ العِشْقُ أشَدَّهُ مِن أجْلِ الوطَن وفلسطين ، بَل مِن أجْلِ الوطَن المُشْتَرَك بِلا حُدُود.
وإن كانَ لِفلسطين حُضُور الجُّرْح الأبْرَز في ماضي تجربةِ هادي دانيال الشِّعريّة فَلِسُورِيّةَ اليوم المَوْقِع الأكثر بُروزاً ب"كوباني" النازِفَة و"دِمشق" الباكية و"حِمْص" الذبيحة و"الأعراب" المُتآمِرين على شام العرَب و"داعش" و"أمريكا" و"اليهود" :
" هذا لَحْمُنا يُذْبَحُ
هذا لَحْمُنا يُهْرَقُ..."(ص63)
والخَرابُ نَراهُ أعَمّ في المكانِ والكيان ،ذْ تونُس التي اخْتارَها الشاعِرُ مَلاذاً ، حِلّاً لِترحالِهِ الدّائم ، اسْتَحالَتْ هِي الأُخْرى إلى "مِحْرَقَة" بَعْدَ "الثورة" الضّائعة وفَظاعَة ما حَدَثَ حينما انْكَشَفَ لَيْلُ "سيدي بوزيد" عَن قَفْرٍ وَفَقْرٍ وانْحِباسِ وُجُودٍ وَخواءٍ في مَكانٍ مُوحِشٍ:
"وَحِيداً
والنافِذَةُ تُطِلُّ على حائطِ إسْمَنْتٍ
والفَجْرُ بَعِيد!."(ص71)
-5-
تَتَراءى الحياةُ للشّاعِرِ مُومِساً بَعْدَ الّذي وَصَفْنا مِن تَغالُبٍ بين الأمَلِ واليأسِ وهتِزازِ وقائع :
"يَتُها المُومِسُ يادُنيا
أفِي لَحْظَةِ غُنْجٍ قَدْ أذنْتِ بِحَفْرِ قَبْرٍ لِي
على هَيئةِ كُرْسِي؟"(ص73)
وإذَا العَبَث يتسلّل إلى بعضِ قصائدِ الشاعِر في "الرُّخام يبتسِم لِأصابِعِي"، وهو استِمْرارٌ في العَبَث الذي سكَنَ َقصائدَ أخْرى قَبْلَ هذه المجموعة الشِّعريّة لِيَنْزَرِعَ على هامِشِ المَعْنى المُقاوِم الّذي مَثَّلَ أهمّ ثوابتِ تجربةِ هادي دانيال الشِّعريّة في مُختلف أطوارِها كي ينمو تَدْريجاً ويظهر بأسلوب السخريةِ السوداء والسّخْط حَدَّ البَذاءة المُتَعَمَّدَة يُرادُ بِها التَّنْفِيس عن غَضَبٍ جوّانِيّ عاصِف :
"القَلْبُ خارَج أضْلُعِي
والزَّهْرُ شاكَسَنِي
ولا أحَدَ مَعِي
فَشَعَرْتُ أنَّ الكَوْنَ إسْتٌ
تَسْتَغِيثُ بإصْبَعِي"(ص75)
العَبَثُ ، هُنا ، ناتِجٌ عَن حالٍ غاضِبَة ساخِطة مُتَمَرِّدَة تُذَكِّرُ بِمَقامٍ آخَر شبيه لِأبي الطيِّبِ المُتَنَبِّي ، وإن اخْتَلَفَ الزَّمنان والوضْعان ، كَقَوْلِهِ :
"أيُّ مَحَلٍّ أرْتَقِي أيُّ عظيمٍ أتَّقِي
وكُلُّ ما قد خَلَقَ اللهُ وما لَم يخْلُقِ
مُحْتَقَرٌ في هِمَّتِي كَشَعْرَةٍ في م مَفْرِقِي"
فَتَعَبُ الرُّوحِ بَعْدَ الذي حَدَثَ ويحدثُ في زَمَنِ التّآمُرِ على سوريا يُغالِبُهُ الشاعِرُ بالعِشْقِ تَشَبُّهاً بِيَسُوع "فأنا يَسوع العاشِقُ"، وَتَمَثُّلاً لِدِماءِ سوريا الشاخِبَةِ قُرْآنا.
إنّها حالاتٌ شَتّى مِن التِّيهِ والارْتِعابِ والتَّحَدِّي تَتَكثَّفُ تكراراً وتَتَكَرَّرُ كَثافَةً هِيَ مِن انْحِباسِ الوَضْعِ ، كأنْ تَتَعَدَّدُ مَشاهِدُ الخَرابِ في كُلٍّ مِن سوريا وفلسطين ليستحيلَ المَوْصُوفُ الشِّعْرِيّ بذلك إلى عَدَمٍ لا يُنْجِبُ إلّا العَدَم :
"لا شيء
لا ظِلال شَيْء
صَحْراء...
لانَبْت
ولا صَوْت
ولا سَراب فَيْء..."(ص102).
لا أُفُق يَعنّ للشاعِر في زحْمةِ مَشاهِدِ الخَراب المُسْتَفْحِلِ هُنا أو هُناك بِوضْعِيّاتٍ مُختلفة : سوريا وفلسطين وتونس...، إذْهِيَ الدِّماء تُسْفَكُ وصُوَر الذَّبْح الحِسِّيّ والمجازيّ تَمْثُل في أيِّ مَوقِعٍ أو اتِّجاه، فَلا تَمَدُّد ولا انفِتاح ، وإنّما هِي حَرَكةُ دَورانٍ تَسِمُ هذهِ المجموعةِ الشِّعريّة بِآلَةِ الخَرابِ تُحَرِّكُها أيادِي الآثِمِين وأعْوانِهِم " بَلَدٌ يَتَكَسَّرُ فَوْقَ بَلَدْ..." وكُلّما هَمَّ الشاعِرُ بالنَّظَرِ إلى ما هُو أبْعَد مِن مَسْرَحِ الجريمةِ ، بل مَسارحها، انْحَسَرَ البَصَرُ أو البصيرَةُ بِفَظاعَةِ ما يحْدثُ ويُعادُ إنشاؤه شِعْراً ، وبِما يَتَشكَّل كابوساً :"بَحْرُ مِن لَهَبٍ وَدُخان...".
-6-
غيْر أنّ الحلم يظلّ إمْكاناً رغم كُلّ الّذي حَدَثَ ويحدث ، شأن الأمَل ، المُغالَبَة ، التّحدّي...
إنَّ "حلم الطائر الأخضر" يجعل الأفق مُمْكِناً بالإعلاء، إذْ لحْظَةَ يستحيل التوجُّه شَرْقاً أو غَرْباً ، يميناً أو شَمالاً لا يبقى للشاعر إلّا التّحليق بِرُوحِه عالياً مُتَحَدِّياً الخرائب والحرائق ، باحِثاً لَه عن سَماء ، عَن "عُشٍّ" يُتَّخَذُ مُستقرّاً بعيداً عن الأرض المُدَمَّرَة :
"الطّائرُ الأخضرُ قامَ مِن رَمادِهِ
وَغادرَ الأرْض لِيَبْتِنِي
عُشَّاً لَهُ
على مَشارِفِ السَّماء..."(ص127).
إنَّ حُلم الشَّاعِرِ مُمْكِنٌ باسْتِنْهاضِ الجسَدِ واسْتِنْفارِ كامِل قُواه الحيّة ليُعَبِّرَ بالشِّعْر مُتَحَدِّياًالعَجْز باحِثاً له عَن اقْتِدار.
وحُلم الشاعِر مَشْروع يتأكَّد بِفائض العِشْق ، عِشْق الوُجُود ، عِشْق الكتابة...
--------------------------------
(*) .هادي دانيال ، "الرُّخام يبتَسِمُ لِأصابِعِي" ، تونس:دار بيرم للنَّشْرِ والتَّوزيع ،الطبعة الأولى ،2015، ص9


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.