الرئيسية
السياسية
الاقتصادية
الدولية
الرياضية
الاجتماعية
الثقافية
الدينية
الصحية
بالفيديو
قائمة الصحف
الإعلان
التونسية
الجريدة التونسية
الحوار نت
الخبير
الزمن التونسي
السياسية
الشاهد
الشروق
الشعب
الصباح
الصباح نيوز
الصريح
الفجر نيوز
المراسل
المصدر
الوسط التونسية
أخبار تونس
أنفو بليس
أوتار
باب نات
تونس الرقمية
تونسكوب
حقائق أون لاين
ديما أونلاين
صحفيو صفاقس
كلمة تونس
كوورة
وات
وكالة بناء للأنباء
موضوع
كاتب
منطقة
Turess
بلاغ هام من الديوانة بخصوص السيارات والدراجات "نت"..#خبر_عاجل
الليلة: أمطار أحيانا غزيرة بهذه المناطق والحرارة تتراجع إلى 3 درجات
صلاح يهدي مصر «المنقوصة» فوزا شاقا على جنوب إفريقيا وتأهلا مبكرا إلى ثمن نهائي كأس إفريقيا
أريانة: شاب ينهي حياة جاره
فيليب موريس إنترناشونال تطلق جهاز IQOS ILUMA i في تونس دعماً للانتقال نحو مستقبل خالٍ من الدخان
خطوط جديدة للشركة الجهوية للنقل بصفاقس
صادم/ كهل يحتجز فتاتين ويغتصب احداهما..وهذه التفاصيل..
قرقنة تكشف مخزونها التراثي: الحرف الأصيلة تحول إلى مشاريع تنموية
نصيحة المحامي منير بن صالحة لكلّ تونسية تفكّر في الطلاق
وزارة الفلاحة تدعو البحّارة إلى عدم المجازفة والإبحار الى غاية إستقرار الأحوال الجويّة
رئيس جامعة البنوك: تم تاجيل إضراب القطاع إلى ما بعد رأس السنة
موضة ألوان 2026 مناسبة لكل الفصول..اعرفي أبرز 5 تريندات
وزارة التربية تنظّم يوما مفتوحا احتفاء بالخط العربي
أيام القنطاوي السينمائية: ندوة بعنوان "مالذي تستطيعه السينما العربية أمام العولمة؟"
توزر: تنشيط المدينة بكرنفالات احتفالية في افتتاح الدورة 46 من المهرجان الدولي للواحات
قائمة أضخم حفلات رأس السنة 2026
مدرب تنزانيا: منتخبنا واثق من تحقيق نتيجة إيجابية أمام أوغندا
السعودية.. الكشف عن اسم وصورة رجل الأمن الذي أنقذ معتمرا من الموت
4 أعراض ما تتجاهلهمش! الي تتطلب استشارة طبية فورية
الكاف : عودة الروح إلى مهرجان صليحة للموسيقى التونسية
القصرين: تدعيم المستشفى الجامعي بدر الدين العلوي والمستشفى الجهوي بسبيطلة بآلتي مفراس حديثتين
صادم : أم تركية ترمي رضيعتها من الطابق الرابع
هام/ الشركة التونسية للملاحة تنتدب..#خبر_عاجل
ممثلون وصناع المحتوى نجوم مسلسل الاسيدون
مقتل شخصين في عملية دهس وطعن شمالي إسرائيل
بداية من شهر جانفي 2026.. اعتماد منظومة E-FOPPRODEX
نجم المتلوي: لاعب الترجي الرياضي يعزز المجموعة .. والمعد البدني يتراجع عن قراره
تونس والاردن تبحثان على مزيد تطوير التعاون الثنائي بما يخدم الأمن الغذائي
سيدي بوزيد: "رفاهك في توازنك لحياة أفضل" مشروع تحسيسي لفائدة 25 شابا وشابة
عاجل: هذا ماقاله سامي الطرابلسي قبل ماتش تونس ونيجيريا بيوم
عاجل/ انفجار داخل مسجد بهذه المنطقة..
مارك زوكربيرغ يوزّع سماعات عازلة للحس على الجيران و السبب صادم
محكمة الاستئناف : تأجيل النظر في قضية "انستالينغو" ليوم 09 جانفي القادم
جندوبة: انطلاق اشغال المسلك السياحي الموصل الى الحصن الجنوي بطبرقة
بُشرى للجميع: رمزية 2026 في علم الأرقام
إهمال تنظيف هذا الجزء من الغسالة الأوتوماتيك قد يكلفك الكثير
تونس: مواطنة أوروبية تختار الإسلام رسميًا!
أفضل دعاء يقال اخر يوم جمعة لسنة 2025
عاجل: المعهد الوطني للرصد الجوي يعلن إنذار برتقالي اليوم!
مصر ضد جنوب إفريقيا اليوم: وقتاش و القنوات الناقلة
من الهريسة العائلية إلى رفوف العالم : الملحمة الاستثنائية لسام لميري
عاجل/ مع اقتراب عاصفة جوية: الغاء مئات الرحلات بهذه المطارات..
رئيس غرفة تجار المصوغ: أسعار الذهب مرشّحة للارتفاع إلى 500 دينار للغرام في 2026
تونس : آخر أجل للعفو الجبائي على العقارات المبنية
هيئة السوق المالية تدعو الشركات المصدرة إلى الاتحاد الأوروبي للإفصاح عن آثار آلية تعديل الكربون على الحدود
نابل: حجز وإتلاف 11طنا و133 كغ من المنتجات الغذائية
الرصد الجوّي يُحذّر من أمطار غزيرة بداية من مساء اليوم
البحث عن الذات والإيمان.. اللغة بوابة الحقيقة
استدرجها ثم اغتصبها وانهى حياتها/ جريمة مقتل طالبة برواد: القضاء يصدر حكمه..#خبر_عاجل
هام/ كأس أمم افريقيا: موعد مباراة تونس ونيجيريا..
كأس أمم إفريقيا "المغرب 2025": برنامج مقابلات اليوم من الجولة الثانية
عاجل : لاعب لريال مدريد يسافر إلى المغرب لدعم منتخب عربي في كأس الأمم الإفريقية
أبرز ما جاء لقاء سعيد برئيسي البرلمان ومجلس الجهات..#خبر_عاجل
عاجل/ قتلى وجرحى في اطلاق نار بهذه المنطقة..
روسيا تبدأ أولى التجارب للقاح مضادّ للسّرطان
افتتاح الدورة 57 للمهرجان الدولي للصحراء بدوز... التفاصيل
ترامب يعلن شن ضربة عسكرية على "داعش" في نيجيريا
أولا وأخيرا .. رأس العام بلا مخ ؟
شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
موافق
صَرْخَةُ الوَجَعِ الأمَضّ: مَن يَفْتَدِي سوريّا؟ في "الرُّخام يبتَسِمُ لِأصابِعي" ل"هادي دانيال"
مصطفى الكيلاني
نشر في
حقائق أون لاين
يوم 22 - 07 - 2015
-1-
تَتَكثَّرُ الحالُ الشِّعْريّةُ بِضَرْبٍ مِن التّكرارِ النّاتِجِ ،رُبّما ، عَن انْحِباسِ الوضْعِ ، إذْ لِلرُّخامِ دَلالةُ الجُّمودِ الثّقيلِ حَدّ إنْهاكِ الرُّوحِ وإنْ تَمَدَّدَ لِيَدْلَهِمَّ أو يَلْتَمِعَ أثْناءَ اللّيلِ وآناءَ النّهار، كَكُلِّ الأشياءِ النّاعِمَة الذّابِحَة حَقِيقَةً أوْمَجازاً فَيَتَشَبَّهُ للذاتِ الشَّاعِرة كائناً عاقِلاً مُقْتَدِراً على التَّفاعُلِ بالابتِسامِ مُخْتَصَراً في الأصابِعِ باعْتِبارِها جُزْءاً يَتّخذُ لَه صِفَةَ الكُلِّ في لحظةِ الكتابةِ ، كَفائضِ الرُّوحِ تَتَجَمَّعُ كَثافةً في التُّخُومِ القَصِيَّةِ لِهذا الجّسَدِ المُسْتَنْفَر بِمُجْمَلِ قُواهُ الحِسِيَّة والعَقْليّة والتَّخْيِيلِيَّةِ والحَدْسِيَّةِ.
كَذا تَبْدو المُجاوَرَة السِّباقِيَّة الدّالّة شِعْراً بين الرُّخامِ والابتِسام والأصابع تَخْصِيصاً بالضَّمير المُفْرَد المُتَكَلِّم يُعلن منذ العلامة اللغويّة الأولى (عنوان المجموعةِ الشعريّة الرئيسيّ) عَن حالٍ مِن الدَّوَران داخِلَ مكان وزمان شبْه مُغْلَقَيْن مُحَدَّدَيْن بِمَوْقِعٍ "رُخامِيّ" ثقيل ضاغِط على النَّفس. وكأنّنا بِقصائدِ هذه المجموعةِ الشِّعريّةِ نَشْهَد استِمْراراً في نَهْجِ قصائدِ "في وَضَحِ الرَّدى أُراقِص الجِّبالَ"(2014).
إنّهُ الشُّعُور الحادّ بالارتعاب والغضب والتّمَرُّد أيضاً على كُلِّ شيءٍ وبالاشمِئزاز مِمّا يحدث هُنا أوهُناك ، في المكان القريب(
تونس
)أو البعيد مُعايَشَةً (سوريّا) ، ويصِل هذا الاشمِئزاز إلى أشَدّ حالاتِهِ بالقَرَفِ الهازئ السّاخِطِ يطفو مِن عميقِ النَّفسِ قَلَقاً مُمِضّاً.
-2-
المُنطَلَق في هذه المجموعة الشِّعريّة لحظة عِشْقِيَّة تبدو استِثْنائيّةً ، لحظة "الغريب" المسكون حَدَّ الهوَس بمَحَبَّةِ سوريّا ، لحظة التّماهِي بينَ حَبيبَةٍ والحبيبة ، بينَ ما يَتَجَسَّدُ وما يَتَجَرَّدُ، بينَ أنتِ -المرأة وأنتِ - البلاد المائلة في عميقِ الرُّوحِ ، دِمَشْق ، الرُّوح-الرّمْز الدّالّ على مُجْمَلِ الوَطَن.
وإذا أفعالٌ دالّة في الظاهِر على حَركات (أتَنَقَّلُ ، أمْضَغُ ، ألْحَسُ، أشْتَمُّ ، أقطف ، أغرَق...) تَشِي بِحالٍ مِن العشْقِ القديمِ الحادِثِ ، عشْقٌ أزَلِيّ يَتَعَدّى حُدودَ الجسَد والمكان والزّمان، حالٌ مِن تَيَقُّظِ كُلِّ الحَواسّ دُفْعَةً واحِدَةً بِتَداخُلٍ حَرَكِيٍّ مُنْتَشٍ حالِم :
"أتَنَقَّلُ كالنَّحْلَةِ العامِلَهْ
بَيْنَ أزْهارِكِ الجَّبَلِيَّةِ ..."*
وإذا مَرارَة الفَمِ هِيَ مِن مَرارةِ الرُّوح المُتَوَجِّعَة بِفائضِ الألَمِ وفائضِ الارتِغاب (مِن الرّغْبَة) في السِّياقِ ذاتِهِ لِتَتَعالَقَ بذلك الدَّوالُّ المُتفارِقةُ ، كالماثِلِ دَلالةً بين المرارة والحلاوَةِ ، بين الذّبولِ والغَضاضَةِ ، بين الوَجَعِ والرّغبة ، بين الرّعشةِ والنّشوَة ، بين الخوفِ والتّمَرُّدِ ، بين َالانطِواء والانكِشاف...
هِيَ لحظة عِشْقيَّة لا كَغَيرها مِن اللحظات السابقة لِكَوْنِها تُزامِنُ رَمْزاً بين جَسَد أنثى ورُوح مَعنى اتَّخَذَ له عنواناً مَخْصُوصاً بِسُوريا الوطَن ، بَل هُو التّماثُل ، تقريباً ، بين المَخصُوصِ الواقِعِيّ وَمُطْلَق المَعْنى ، حتّى لكأنّهما مِن أصْلٍ واحِدٍ مِمّا يُحْدِث إرباكاً في منظومةِ استمرار الوضع والحال المُلازمة له وَجَعاً ، قَلَقاً ، يأساً ، أمَلاً ، انْطِواءً ، انْتِشاءً ...
إنَّ للعِشْقِ ، هُناتَحديداً ، دلالة الحِلِّ أثناءَ التّرحال أو هُو الحِلُّ الذي يُراد به إعطاء التّرحالِ مَعْنى آخَرَ حادِثاً يُذهب عنه الكثير مِن المللِ الناتِجِ عن الاستقرار مَكاناً واضطراب الوِجْهَة كياناً.
إلّا أنّ صِفات العاشِقِ هي ذاتها في مُجمل الحال : هشاشة ، سأم ، تَشَرُّد عاطِفيّ ، بحْث دائم عن وطَن واعتِراف حدّ الهَوَس بالوَطَن ، ارْتِغاب آسِر بَدْؤهُ "كَفَرْيَة" وأطواره أوطانٌ أخرى وأوطانٌ بدافِعِ الحرّيّة وجَاذِب الرّحمِ الأوَّل المَسكُون بِجُرْحِ
فلسطين
، انْطِواء اضطِراريّ حِيناً واخْتِيارِيّ حيناً آخَر أوْ ذاك المُلتبس حالاً بين فِعْلٍ إرادِيّ ونَقيضه :
"كيفَ وحدي
ومازلْتُ وَحْدي
إلى أن تُنادِمَنِي المَقْبَرَهْ"(ص18)
-3-
سُؤالُ المَكان هو ، لاشكّ ، مِن سُؤالِ الكيان ، وكذا العَكس ، إذْ لا إمْكانَ للاستِمرارِ في الاستِرجاع أو الاسترهان (مِن الرّاهِن) ، ولا إمْكان أيْضاً للاستِباق مادام التَّغالُب على أشَدّه بين وَطَنٍ مَنْشُود لا يتحقّق الوصول إليه والوطن ، بينَ ارتِغاب يَسْعى إلى الارتواء ولا رُواء ، بين أن يكون الشاعِر أو لايكون :
"ياكَوْن ، ياروحهُ
إذَا لم يكُن وَطَنِي
كَيْفَ لِي أن أكُون؟"(ص29)
فالوطَن بالتعريف (وطنِي) ثابتٌ مُتكرّر في مسارّ تجربة هادي دانيال الشِّعْريّة وإنْ تَغَيَّرَتْ الأَمْكِنة والأزمنة ، كما أنّ حلم الشاعِر بالحرّيّة ثابتٌ دلاليّ مُتكرّرٌ آخَر لايَتَعارَضُ ومَعْنى وَمَفْهُوم الوَطَن ، لأنّ حلم الحرِّيَّة هو الذي يُكْسِبُ الوطنَ أبعاداً دلاليّة أوْسَع وأعْمَق ، شأن المُسافِر يُهاجِر بعيداً عن الدّيار مَحَبَّةً لها وإيثاراً للغُرْبَةِ على الاغتِراب.
وكأنّ الغربةَ التي أنْقَذَتْ الشَّاعِرَ مِن عَذابِ الاغْتِرابِ استَحالَتْ في الّلاحِقِ وعنْدَ الذي حَلَّ بِسُوريّا مِن أذى أبنائها العاقِّين والأغْرابِ الأعْداء إلى ما يُشْبِه الإحساسَ العميقَ الدّامِي بالذَّنْب مِن غَيْرِ إثْمٍ عَدا التّرحالِ عن الأهلِ والدّيار نُشْداناً لِحُرِّيَّةِ الإنسانِ في أن يكونَ فَرْداً مُخْتَلِفاً عن الجماعةِ تَوَّاقاً إلى الحياةِ المُتَجَدِّدَة مُناضِلاً مُبْدِعاً بالكِتابَةِ ، وبالشِّعْرِ مِنْها ، على وَجْهِ الخصوص.
فهذا الإحْسَاس ، وإنْ لم يَرِدْ صريحاً في قصائدِ "الرُّخام يبتسِم لِأصابِعي" وسابِقاتِها ، ومُنذ "ربيع مُتأخِّر" (2011) ثُمَّ "خَريف مِن أجْل حَطَّبِيّ السّماء"(2012) و"عندما البلاد في الضّباب والذّئاب"(2013) و"في وَضحِ الرَّدى أُراقِصُ الجِّبال" (2014)، فَهُوَ ماثِلٌ في الخَفايا والطَّوايا بِما قد يَعْنِي إخْفاءً غَيْر مُتَعَمَّد ، شأنَ الكِتابةِ الشعريّة والأدبيّ والإبداعِ الفنّي ، نسْبَةً إلى الفنونِ عامَّةً ، تَنْكَتِبُ ، كأن تُنْجِز ذاتها أحياناً لِتَرْتَدّ على مُبْدِعِها مِثْلَ مِرآةٍ مُعْتِمَة عاكِسَة لا يُمكِن تَمَثُّل طَيْف المَعْنى بِها إلّا لِمَن امْتَلَكَ دِينامِيَّةَ الاقتِراب والابتِعاد بِفِعْلِ القِراءة والتأوُّل المَشروط بِمَا قد يُرى لدى الذاتِ القارئة وما لا يُرى عِنْد الذاتِ الكاتِبَة شِعْراً إلّا إذَا ما استَحال المَكتوبُ إلى مَقروءٍ للشَّاعِرِ المُتباعِدِ عَن نَصِّهِ.
ذلكَ ما يُفَسِّر ، حسب تقديرنا ، فرط الخوف على الوطن -
سوريا
، كشعورِ ابْنٍ بالتّقصيرِ تجاه أمٍّ لَطالَما سَكَنَتْ عَمِيقَ رُوحِهِ لِيُغْدِقَ عليها مِن وَفِيرِ عِشْقِهِ بَعْدَ أن اغْتَذى مِن دِفْءِ أحضانِها وَفائض حَنانِها.
شُعورٌ يبدو مُلتبسا عند تردّده بين المُعلن والُمحتجب الدّلاليّيْن ، بين سوريّا الأمّ والأمّ في سوريّا بَعْدَ فقدانِها الأبَدِيّ ، كالوارِدِ في إحْدى قصائدِ "في وضح الرّدى أُراقِص الجّبال".
فَمايلفت الانتباه عند قراءة قصائد الشاعر الأخيرة الاهتِزاز النّفْسِيّ العنيف الناتِج عن التَّزامُن بين الدَّمار الذي لحِقَ
بِسوريا
ورحيلِ الأمّ الأبَدِيّ حتّى لكأنَّ فطاماً أمَضّ وَجَعاً بَعْدَ المَشيمة والرّضاع يحدث للشاعر هُو فطام الحياة ذاتها الذي يتراءى له إنذاراً بِمَوْتٍ قادِم ، مَوْت الرَّمْز الأهَمّ قَبْل أن يحدثَ المَوْتُ البيولوجيّ.
ذلكَ ما يُفَسِّر اليأسَ أحياناً.
-4-
إلّا أنّ اليأسَ الّذي نَرى في "الرُّخام يبتسِم لِأصابِعي" هُوَ حالٌ عارِضَة ، كأن يتفاقَم حِيناً وَيتَضاءلُ أحياناً لارتِباكِ الحالات ، كالتَّغَنِّي ببطُولةِ "زينب سليمان" الشهيدة ، إرْث طرطوس الكِفاحِيّ ، والمُهْرَة "تصهل فيشَوارعِ البَلَدْ:
مَن يَفْتَدِي سوريّا؟"(ص37)، وكالجسدِ يكتَظُّ بالرّغبةِ رغم الانكِساراتِ رافِضاً التسليمِ بِواقِعِ العَجْزِ ، مُتَشَهِّياً عبْر زُجاج النُّزُل المُطلّ على الشارعِ النساء الجميلات العابِرات ، وَكَمَطَرِ اللاذِقِيَّة يُعِيد للذاكِرة ألَقَها القديمَ فَتَسْتَبِين بَعْضاً مِن الصُّوَر المُعْتِمَة ، وَيَغْمر الماء ، شأْن الأمَل ، المكانَ والزَّمان.
وكذا الحال الشِّعْريّة تَبْدو مُتَجاذَبَة بين الأمَل واليأس بينَ ماضٍ وحاضِرٍ ، إذْ تُقِرُّ في راهِنِ الوُجُود ، رغم الأمل الّذي لا ينقطِع ، واقِع جَسَد مُنْهَك :
"ما عَادَ في القلبِ خَزَّان مِن النَّبْضِ
ما عادَ في ساقَيَّ شَوْقُ جَوادِ عاشِقَةٍ إلى الرَّكْضِ"(ص45(.
هذا الشُّعور الحادّ بالعَجْز يحتدّ في قصائد هادي دانيال الشعريّة الأخيرة عنْد وَصْف الجسَد تحديداً الّذي أضْحى مُنْهَكَاً بأثْقالِهِ نازِفاً بأوْجاعِهِ ، فيتألَّم لِذاتِهِ وسوريّة
وفلسطين
. بالأمْس كان الجّرح النّازِف بِفِلَسطِين لِوَحْدِها فأضْحى الجُّرْح أشَدَّ نَزْفاً بِكُلٍّ مِن سوريّةَ
وفلسطين
وبكافّةِ أوطانِ العَرَب المُسْتَباحَة.
إلّا أنَّ البَوْحَ بالوَجَعِ لا يَعْنِي استِسْلاماً بل إصْراراً على المُغالَبَةِ حَدَّ تَمَنِّي المَوْت بِفائضِ العشْق:
"هذي بِلادِيَ يا الله قَدْ ذُبِحَتْ
خُذْنِي لِتَحْيَا
فِدَائيَّ القَرابينِ..."(ص49)
الرغبة في الحياة ، إذَن ، لا تَتَجَمَّد ، والحال الشعريّة نراها تَتَجَدَّد بالانطِواءِ حيناً والاندِفاعِ أحياناً ، باليأسِ المُخْصِبِ أمَلاً ، وبالأمَلِ يَعْلو في سماءِ الرّغْبَة مُتّحدّياً كُلَّ العَذابات مُلْتَذَّاً بِآلامِهِ المُمِضّة ، المُتَصَوِّف بَلَغَ بِهِ العِشْقُ أشَدَّهُ مِن أجْلِ الوطَن
وفلسطين
، بَل مِن أجْلِ الوطَن المُشْتَرَك بِلا حُدُود.
وإن كانَ
لِفلسطين
حُضُور الجُّرْح الأبْرَز في ماضي تجربةِ هادي دانيال الشِّعريّة فَلِسُورِيّةَ اليوم المَوْقِع الأكثر بُروزاً ب"كوباني" النازِفَة و"دِمشق" الباكية و"حِمْص" الذبيحة و"الأعراب" المُتآمِرين على شام العرَب و"داعش" و"
أمريكا
" و"اليهود" :
" هذا لَحْمُنا يُذْبَحُ
هذا لَحْمُنا يُهْرَقُ..."(ص63)
والخَرابُ نَراهُ أعَمّ في المكانِ والكيان ،ذْ تونُس التي اخْتارَها الشاعِرُ مَلاذاً ، حِلّاً لِترحالِهِ الدّائم ، اسْتَحالَتْ هِي الأُخْرى إلى "مِحْرَقَة" بَعْدَ "الثورة" الضّائعة وفَظاعَة ما حَدَثَ حينما انْكَشَفَ لَيْلُ "
سيدي بوزيد
" عَن قَفْرٍ وَفَقْرٍ وانْحِباسِ وُجُودٍ وَخواءٍ في مَكانٍ مُوحِشٍ:
"وَحِيداً
والنافِذَةُ تُطِلُّ على حائطِ إسْمَنْتٍ
والفَجْرُ بَعِيد!."(ص71)
-5-
تَتَراءى الحياةُ للشّاعِرِ مُومِساً بَعْدَ الّذي وَصَفْنا مِن تَغالُبٍ بين الأمَلِ واليأسِ وهتِزازِ وقائع :
"يَتُها المُومِسُ يادُنيا
أفِي لَحْظَةِ غُنْجٍ قَدْ أذنْتِ بِحَفْرِ قَبْرٍ لِي
على هَيئةِ كُرْسِي؟"(ص73)
وإذَا العَبَث يتسلّل إلى بعضِ قصائدِ الشاعِر في "الرُّخام يبتسِم لِأصابِعِي"، وهو استِمْرارٌ في العَبَث الذي سكَنَ َقصائدَ أخْرى قَبْلَ هذه المجموعة الشِّعريّة لِيَنْزَرِعَ على هامِشِ المَعْنى المُقاوِم الّذي مَثَّلَ أهمّ ثوابتِ تجربةِ هادي دانيال الشِّعريّة في مُختلف أطوارِها كي ينمو تَدْريجاً ويظهر بأسلوب السخريةِ السوداء والسّخْط حَدَّ البَذاءة المُتَعَمَّدَة يُرادُ بِها التَّنْفِيس عن غَضَبٍ جوّانِيّ عاصِف :
"القَلْبُ خارَج أضْلُعِي
والزَّهْرُ شاكَسَنِي
ولا أحَدَ مَعِي
فَشَعَرْتُ أنَّ الكَوْنَ إسْتٌ
تَسْتَغِيثُ بإصْبَعِي"(ص75)
العَبَثُ ، هُنا ، ناتِجٌ عَن حالٍ غاضِبَة ساخِطة مُتَمَرِّدَة تُذَكِّرُ بِمَقامٍ آخَر شبيه لِأبي الطيِّبِ المُتَنَبِّي ، وإن اخْتَلَفَ الزَّمنان والوضْعان ، كَقَوْلِهِ :
"أيُّ مَحَلٍّ أرْتَقِي أيُّ عظيمٍ أتَّقِي
وكُلُّ ما قد خَلَقَ اللهُ وما لَم يخْلُقِ
مُحْتَقَرٌ في هِمَّتِي كَشَعْرَةٍ في م مَفْرِقِي"
فَتَعَبُ الرُّوحِ بَعْدَ الذي حَدَثَ ويحدثُ في زَمَنِ التّآمُرِ على
سوريا
يُغالِبُهُ الشاعِرُ بالعِشْقِ تَشَبُّهاً بِيَسُوع "فأنا يَسوع العاشِقُ"، وَتَمَثُّلاً لِدِماءِ
سوريا
الشاخِبَةِ قُرْآنا.
إنّها حالاتٌ شَتّى مِن التِّيهِ والارْتِعابِ والتَّحَدِّي تَتَكثَّفُ تكراراً وتَتَكَرَّرُ كَثافَةً هِيَ مِن انْحِباسِ الوَضْعِ ، كأنْ تَتَعَدَّدُ مَشاهِدُ الخَرابِ في كُلٍّ مِن
سوريا
وفلسطين
ليستحيلَ المَوْصُوفُ الشِّعْرِيّ بذلك إلى عَدَمٍ لا يُنْجِبُ إلّا العَدَم :
"لا شيء
لا ظِلال شَيْء
صَحْراء...
لانَبْت
ولا صَوْت
ولا سَراب فَيْء..."(ص102).
لا أُفُق يَعنّ للشاعِر في زحْمةِ مَشاهِدِ الخَراب المُسْتَفْحِلِ هُنا أو هُناك بِوضْعِيّاتٍ مُختلفة :
سوريا
وفلسطين
وتونس
...، إذْهِيَ الدِّماء تُسْفَكُ وصُوَر الذَّبْح الحِسِّيّ والمجازيّ تَمْثُل في أيِّ مَوقِعٍ أو اتِّجاه، فَلا تَمَدُّد ولا انفِتاح ، وإنّما هِي حَرَكةُ دَورانٍ تَسِمُ هذهِ المجموعةِ الشِّعريّة بِآلَةِ الخَرابِ تُحَرِّكُها أيادِي الآثِمِين وأعْوانِهِم " بَلَدٌ يَتَكَسَّرُ فَوْقَ بَلَدْ..." وكُلّما هَمَّ الشاعِرُ بالنَّظَرِ إلى ما هُو أبْعَد مِن مَسْرَحِ الجريمةِ ، بل مَسارحها، انْحَسَرَ البَصَرُ أو البصيرَةُ بِفَظاعَةِ ما يحْدثُ ويُعادُ إنشاؤه شِعْراً ، وبِما يَتَشكَّل كابوساً :"بَحْرُ مِن لَهَبٍ وَدُخان...".
-6-
غيْر أنّ الحلم يظلّ إمْكاناً رغم كُلّ الّذي حَدَثَ ويحدث ، شأن الأمَل ، المُغالَبَة ، التّحدّي...
إنَّ "حلم الطائر الأخضر" يجعل الأفق مُمْكِناً بالإعلاء، إذْ لحْظَةَ يستحيل التوجُّه شَرْقاً أو غَرْباً ، يميناً أو شَمالاً لا يبقى للشاعر إلّا التّحليق بِرُوحِه عالياً مُتَحَدِّياً الخرائب والحرائق ، باحِثاً لَه عن سَماء ، عَن "عُشٍّ" يُتَّخَذُ مُستقرّاً بعيداً عن الأرض المُدَمَّرَة :
"الطّائرُ الأخضرُ قامَ مِن رَمادِهِ
وَغادرَ الأرْض لِيَبْتِنِي
عُشَّاً لَهُ
على مَشارِفِ السَّماء..."(ص127).
إنَّ حُلم الشَّاعِرِ مُمْكِنٌ باسْتِنْهاضِ الجسَدِ واسْتِنْفارِ كامِل قُواه الحيّة ليُعَبِّرَ بالشِّعْر مُتَحَدِّياًالعَجْز باحِثاً له عَن اقْتِدار.
وحُلم الشاعِر مَشْروع يتأكَّد بِفائض العِشْق ، عِشْق الوُجُود ، عِشْق الكتابة...
--------------------------------
(*) .هادي دانيال ، "الرُّخام يبتَسِمُ لِأصابِعِي" ،
تونس
:دار بيرم للنَّشْرِ والتَّوزيع ،الطبعة الأولى ،2015، ص9
انقر
هنا
لقراءة الخبر من مصدره.
مواضيع ذات صلة
الطريق أو سارد أحواله شعراً: في "وضح الردى أراقص الجبال" لهادي دانيال
"عندما البلاد في الضباب و الذئاب" لهادي دانيال: شاعريّة الارتغاب والارتعاب
الرحيل من ضفة الحلم إلى عتبات النّور
ديوان « مسرّات و حصار « للشاعر جلال باباي: بقلم: البشير عبيد
فن التوقيع في الشعر العربي الفلسطيني المحلي: الدكتور حبيب بولس
التوازن بين الفن والمضمون...
أبلغ عن إشهار غير لائق