إنّ التطوّرات الأخيرة التي شهدتها الساحة السياسية في تونس لا يمكن فهمها بعمق سوى من منظور دينامي حركي بصدد تشكيل مشهد جديد قد يقود تدريجيا إلى ولادة مشهد يقطع مع إرث امتداداته تعود إلى عقود من الزمن. فانشقاق محسن مرزوق و إعلانه عن المضي في تكوين كيان سياسي جديد تحت يافطة "المشروع الوطني العصري" والذي سيحاول من خلاله تجريد نداء تونس من رأس ماله الرمزي الذي مكنه من الصعود الصاروخي في المشهد التونسي والوصول إلى السلطة بما يشبه "المعجزة التاريخية"، من المؤكد أنّه سيقود إلى نشأة حزب سيجمع الغاضبين من هنا وهناك وقد يكون له شأن في المستقبل البعيد قبل القريب. وعلى الرغم من عقده لمؤتمر سوسة الذي وصف بالتوافقي،فإنّ نداء تونس في المحصّلة لن يكون بذات العنفوان و الأفق الذي فتح له من خلال انتخابات 2014 و ظرفيتها التي لن تكرّر ما دام التاريخ لا يعيد نفسه. حزب "النداء الجديد" -مهما كانت تسميته المقبلة - الذي قد يتجه محسن مرزوق نحو تأسيسه بعد أن نجح في أولى خطوات رحلة الألف ميل يوم الاحد خلال اللقاء الشعبي الذي نظّمه وسط حضور مكثف أبرز قدرة لافتة للانتباه على التعبئة و الاستقطاب علاوة عن تبني خطاب وطرح سياسي من شأنه أن يحفّز الكثير ممن خابت آمالهم في حركة نداء تونس التي يبدو أنّها بصدد سلك طريق الصعود إلى الهاوية. من الواضح أنّ مرزوق سيلعب ورقة المستقبل بتكتيك و خطاب ينبني على التجديد من الناحية الظاهرية/السطحية على الأقل وما حديثه عن التوجه نحو استفتاء مليون تونسي بشأن الرؤية المستقبلية و الاسهاب في التأكيد على أهمية الديمقراطية المحليّة والقاعديّة والانفتاح على الطاقات الشابّة و النسوية إلاّ مؤشر على مثل هذا المنزع. في الجهة المقابلة،مايزال حزب التيّار الديمقراطي الذي أسّسه محمد عبّو ومجموعة المنشقين عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية يشقّ طريقه في صمت وهو الذي تمكن من وضع موطئ قدم في البرلمان الحالي رغم حداثة عهده. محمد عبّو بتجربته السياسيّة وبالشكل المغاير لمفهوم العمل الحزبي التقليدي الذي ظهر به التيّار الديمقراطي والقائم على مبادئ ثابتة و عدم التسرّع في الهرولة نحو أتون السلطة و مؤسّساتها التنفيذية،هو الآخر قد يكون له شأن هام في المعادلة السياسيّة القادمة. من المهم هنا القول بأنّ الشعبية و مستوى الثقة التي يحظى بها عبّو من خلال نتائج سبر الآراء التي رغم كونها تخضع لقاعدة النسبية،إلاّ أنّها في نهاية المطاف يمكن أن تكون مؤشرا على تمتع الأمين العام السابق لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية بآفاق هامة للعب دور محوري في العشريتين المقبلتين على الأقل. مهدي جمعة الذي غادر "حكومة التكنوقراط" بهالة إعلاميّة كبيرة هو الآخر قد يكون جنديا احتياطيا تعوّل عليه بعض الجهات التي تحرّك جزءا من خيوط اللعبة في "الغرف السوداء" لاسيما في ظلّ الأزمة السياسيّة الراهنة لحركة نداء تونس. لا مراء في أنّ جمعة تعوزه التجربة السياسيّة والشخصية الكاريزماتيّة الربانيّة و الأسلوب الخطابي الجذّاب. لكن كلّ شيء أضحى متوقّعا وممكنا في تونس ما بعد 2011. كيف لا والحال أنّ الباجي قائد السبسي خرج بقدرة قادر من قمقم التقاعد السياسيّ بعد أن خطّ مذكراته بشأن"البذرة الصالحة و الزؤام" و أصبح اليوم رئيسا لجمهورية ثانية كان من المفترض أن يكون الشباب الذي قاد الحراك الثوري عمادها و حجز الزاوية فيها. لقد اختار جمعة لعب دور المراقب من فوق الربوة حاليا في انتظار اقتناص الفرصة ربّما للعودة بمشروع سياسي جديد كما روّجت لذلك بعض الدوائر الإعلاميّة المقربة منه، لذلك من الصعب ألاّ تكون لرئيس حكومة "الستارت آب" السابقة طموحات ذاتيّة وموضوعيّة حال دون تحقيقها في وقت مضى الاتحاد العام التونسي للشغل الذي قطع طريق قصر قرطاج أمام مهدي جمعة. وفي خضم هذه المتغيّرات المستقبلية التي يبدو أنّها بصدد التشكلّ تظلّ حركة النهضة الطرف الحزبي الأقوى والأكثر تنظيما وانتشارا شعبيا وانضباطا قاعديا وقياديا. بيد أنّ المستقبل السياسي للشخصيات السياسية الآنف ذكرها و أحزابها قد يحسم بمدى القدرة على المناورة أو المجابهة مع حركة النهضة التي تسير بدورها لرسم ملامح فترة انتقالية تهيئ الأرضية لمواصلة المشوار في مرحلة حبلى بالتحديات عنوانها:"طيّ صفحة راشد الغنوشي".