ايداع 9 من عناصرها السجن.. تفكيك شبكة معقدة وخطيرة مختصة في تنظيم عمليات "الحرقة"    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    حالة الطقس لهذه الليلة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"بورقيبة" والثورة
نشر في حقائق أون لاين يوم 10 - 09 - 2016

هل يجوز توصيف الحالة السياسية في تونس اليوم بكونها عديمة الروح؟ الروح بما هي أخلاقية سياسية و بما هي تعبير عن روح الشعب الواقعي و ليس المتخيل. كلما تقدمنا أكثر كلما تكشفت عديد المواقف السياسية عن افتقادها للروح و الفكر و الأصالة الفكرية. كأن جل ما قامت به الثورة هو تعرية الوجوه عن فقرها الذي كانت الدكتاتورية تحجبه كما كانت تحجب الشعب عن نفسه..
الحركة الدستورية الوطنية التي قارعت الاستعمار الفرنسي ثم حكمت البلاد، لم تدعي أنها تملك فكرا سياسيا شموليا أي إيديولوجية. حددت جملة من الأهداف تمركزت حول مقولة الوطن التونسي. كانت تتبع الواقع و ما يتطلبه و كانت متأثرة أساسا بالفلسفة السياسية الفرنسية.
الحركة الدستورية جعلت من مطلب "برلمان تونسي" قضية وطنية و معركة ضد المستعمر أزهقت فيها أرواح شهداء (9 افريل 1938) لأصالة المطلب البرلماني الديمقراطي التحرري كتعبير عن سيادة الشعب. هذا المطلب الديمقراطي الذي صاغ نفسه كمضمون فكري سياسي استشهادي في معركة التحرر ضد الاستعمار، تم الانقلاب عليه بعد الاستقلال حين حكمت هذه الحركة البلاد. كان هذا المطلب الديمقراطي هو عمق النضال السياسي ضد السلطة و ان اكتسى محمولات أخرى بعيدة عن توصيفاته، إلى غاية الثورة الشعبية في سنة 2011، حيث قفز المطلب الديمقراطي إلى السطح كمطلب أساسي و ضروري و اولوي..
كان الرئيس "حبيب بورقيبة" بمشروعه التحديثي قد بنى رؤاه حول ما أطلق عليه عنوان "الأمة التونسية". من الواضح هنا الوعي الواضح و المحدد بالعنوان السياسي الذي يشتغل عليه. و الحقيقة أن هذا العنوان كان من المفترض ان تتم دراسته و تحليله من بقية الفاعلين السياسيين بينما في الواقع لم يحظى بأي دراسة فكرية، و بقي بورقيبيا خالصا في الخطاب و الممارسة.
كان بورقيبة سباقا و فطنا جدا و شديد الذكاء و الدهاء باعتراف أعدائه قبل أصدقائه. هذا العنوان لم يفرضه على الواقع بقدر ما جعل ما في الواقع التونسي ما يعبر عنه فعليا. لذلك تمت تسمية السياسة البورقيبية بالبراغماتية. فما حقيقة هذه البراغماتية؟
يبدو ان حقيقتها الأساسية هو تحديد مجال الرؤيا في الداخل التونسي حاضرا و تاريخا و مستقبلا. فتاريخيا تونس قرطاج أسستها امرأة فينيقية اسمها "عليسة". تونس كذلك هي الكاهنة الملكة البربرية التي حاربت جيوش عقبة ابن نافع الذي أتى غازيا بالسيف بنزعة أموية شوفينية فتم التحدي له بكل قوة. بعد ذلك حين تمت الدعوة إلى الدين الجديد باللين انفتحت القلوب له كما انفتحت إلى اللغة العربية. تونس كذلك هي عقد الصداق القيرواني الذي فيه تكون العصمة للمرأة ان أراد الزوج الزواج بثانية بحيث يحق للأولى خلعه. تونس كذلك هي الفقيه "الطاهر الحداد" صاحب الكتاب المشهور "امرأتنا في الشريعة و المجتمع"، و الذي قدم فيه تأويلا للقرآن توصل من خلاله إلى إنكار تعدد الزوجات، و هو الكتاب الذي تسبب له في الطرد من جامع الزيتونة و النبذ. تونس كذلك هي الشيخ جعيط ( أب المفكر التونسي الكبير هشام جعيط) و الشيخ الطاهر بن عاشور صاحب "الإسلام و التنوير" و غيرهما ممن صاغوا مشروع مجلة الأحوال الشخصية التي حررت المرأة التونسية..
تونس كذلك هي الأهالي اللذين شيدوا عديد المدارس في فترة الاستعمار الفرنسي لتعليم الأبناء. تونس الشعب الذي يحب تعليم أبنائه.
تونس الشعب الذي يحب الحياة.. لذلك جعل بورقيبة أولى أولوياته هو الاهتمام بالصحة العمومية و سياسة تحديد النسل و بناء المستشفيات و المستوصفات العمومية. و جعل بورقيبة التعليم المعاصر الموحد أولى الأولويات و هو بذلك قد عبر عن روح الشعب. و فرض بورقيبة مجلة الأحوال الشخصية لان المرأة التونسية هي أساس المجتمع، فهي التي تشتغل في الحقول و هي صاحبة السلطة في بيتها، و قام بنزع حجابها كتعبير عما تريده و يريده المجتمع ضمنا دون ان يتجرأ على الاعتراف بذلك بصفة علنية.. كان بورقيبة يعلم ان المعركة الأساسية تتجه نحو تثوير الداخل و ايقاضه من انحطاطه و سباته و نفاقيته و ازدواجيته...
مشروع الأمة التونسية تضمن إقرار العربية لغة الدولة و الإسلام دينها. من الممكن ان يكون بورقيبة حاملا لمشروع خلق تونس أوربية و لكنه لم يفرض المسالة ذاك انه يدرك حدود السياسي. حدوده في التعبير عن روح الشعب. شعب عربي مسلم لكنه يتطلع إلى التميز و الحداثة لأجل ذلك كان تلميذ الثانوية يقبل بشغف على مادة الفلسفة، و تونس هي الوحيدة في البلدان العربية التي تدرس فيها مادة الفلسفة في الثانوية. كما ان دور الثقافة و المكتبات العمومية المنتشرة في كل المدن التونسية أسهمت في تنمية شغف المطالعة الحرة للأفكار و الآداب، و تونس إضافة إلى دور الشباب هي المتفردة في البلدان العربية. و انا شخصيا حين قمت بسفري في بلدان المشرق العربي و التي تعتبر رائدة في التعليم و الحداثة مثل العراق و سوريا لم أجد ما يماثل السياسة البورقيبة في دور الشباب و الثقافة و المكتبات العمومية..
من الممكن ان يكون بورقيبة عروبيا إسلاميا و لكنه بنظرة مستقبلية تثويرية تاريخيا و اجتماعيا و حضاريا. نظرة مستقبلية لمضمون واقعي جديد و على ذاك الأساس تكون تونس امة بمفهوم النموذج الجديد الذي أراده للأمة العربية الإسلامية الجديدة. تونس المستقلة عن الواقع الحالي من اجل خلق واقع جديد يقوم على تثوير الداخل و التجاوز للقبلية و العشائرية لأجل المدنية و الحداثة و ما تتطلبه من علم و مهارة و نظام و حرية للمرأة و الجسد و العقل. لا ننسى انه قد تكلم عن العروبة و انه يشترط فيها خلق نموذج جديد يقوم على تنوير العقول و تحريرها من أثقال التاريخ و تعليمها لأجل استيعاب العصر الحديث و العيش فيه جسدا و روحا في عملية تجاوز عوامل انحطاطها الذاتية و بناء قوتها في بناء إنسان جديد قوي فاعل بمنطق عصره. نذكر هنا الكلمة التي ألقاها في قاعة "البالماريوم" أمام مجموعة من الطلبة التونسيين اجتمع بهم الرئيس الليبي "معمر القذافي". كان يحدثهم عن الوحدة العربية و التحدي و التصدي فقاطعه بورقيبة قائلا:" تتحداهم بماذا؟ بعقول فارغة؟ المادة الشخمة هي الأساس.. يجب تربية العقول أولا بعد ذلك يأتي التحدي و الاقتدار لوحده و تأتي الوحدة العربية ان أراد العرب الوحدة فعلا؟ الشعارات و الصخب لا تصنع شيئا.."
كان "بورقيبة" يفكر و يعمل في إطار الوطن التونسي. أما المعارضات التي تكونت كأنساق فكرية فكلها مستوردة للإيديولوجيات من خارج تونس محاولة إلباسها للجسد التونسي عبر آليات التلفيق المختلفة. الشيوعية و العروربية الوحدوية و الاسلاموية. كلها لم تجد موطئ قدم فعلي في الواقع و مؤثر و قادر على الانتشار الواسع و افتكاك السلطة. ايديولوجيات ضخمة توهمك بالروح فيها و لكنها عجزت عن ان تكون الروح التونسية. بل ان من أهم أسباب عدم انتشارها هو ازدواجية الحاملين لها بين التونسة فيهم و الايديولوجية.
برغم ان الشيوعية عرفت انتشارا واسعا في الجامعة في الستينات و السبعينات من القرن العشرين، إلا أنها ضلت ذات فعل احتجاجي في الواقع و هي لازالت إلى اليوم كذلك. لم تصنع المبادرة الوطنية و لم تفاجئ الواقع و إنما جل عملها كان يجد صداه أساسا عند أروقة البوليس السياسي المتابع الفعلي و الدائم لأنشطتهم. لذلك بقدر ما كان البوليس عدوا بقدر ما كان صديقا. و يعود السبب الأساسي في ذلك إلى كون العمل السياسي تركز حول الطالب الجامعي، و برغم الإيمان بالبروليتاريا و الفلاحين إلا أنهم ضلوا عاجزين إلى اليوم عن إيجاد الخطاب الذي يفهمه الفلاح و العامل باستثناء بعض الحالات الشاذة التي لا يمكن اعتمادها في التوصيف العام للمشهد السياسي. تم الاعتماد على عنصر الطالب الجامعي الذي ما ان يتحصل على الشهادة الجامعية حتى يلتحق بالوظيفة في إحدى أجهزة الدولة. الدولة التي لم يتم تحديد مفاهيم واضحة و نضالات واضحة ترسم خطوطا فاصلة بين الدولة و السلطة السياسية. في الحقيقة لم يوجد اشتغال على مفهوم السلطة و إيجاد مفهوم جديد لها حول آلياتها و قمعها و احتكارها إلا في السنوات الأخيرة أي من أواخر التسعينات إلى الآن.
فحين تقررت الرئاسة مدى الحياة للرئيس "بورقيبة" كان من المفترض ان تصاغ مفاهيم سياسية حول السلطة و بالتالي النضال لأجل سلطة ديمقراطية يتم فيها التداول السلمي على السلطة و تحديد مددها و تقسيم السلطات و غيرها. تلك الترسانة من المفاهيم الدستورية الديمقراطية في حينه لم تكن مطلبا سياسيا للمعارضة. كانت المعارضة تؤمن و تصيغ خطابها و مواقفها السياسية على أساس مقولة الطليعة الثورية التي تؤسس لدكتاتوريتها و التي تصاغ كتعبير أوحد عن الشعب. و طبعا فهو الشعب الموهوم في مخيلتهم السياسية و ليس الشعب الواقعي العائش على الأرض..
وفي أواسط الثمانينات عرفت الحركة الاسلاموية انتشارا، و لكنه كان مصطنعا بتشجيع من الوزير الأول آنذاك "محمد مزالي"، و تسهيلات من السلطة السياسية لمحاربة اليسار المسيطر على الجامعة التونسية. انتشر التيار الإسلامي في فترة ضعف الدولة اقتصاديا و سياسيا. فقد أصبح بورقيبة عجوزا، و عزلته الحاشية عن الشعب، و غدا صنما مزعجا يفرض نفسه على الشعب كل مساء قبل نشرة الأخبار و في مقدمتها الطويلة. كان الشعب على موعد دائم مع مشاهد سباحة الزعيم الهرم. الزعيم الضعيف و الدولة الضعيفة و الشعب في حالة قلق على المستقبل.
واقع الأزمة و التأزم و التعفن السياسي و الأخلاقي السياسي هو الحالة المثلى لانتشار الطائفية الإسلامية و لكل إيديولوجية دينية. و بسرعة مهولة لا تنم عن غباء سياسي بقدر ما تؤشر إلى غياب أي فكر سياسي، كشف الإسلاميون عن مخزون العنف الذي يشكل ركيزة إيديولوجية أساسية يربطونها بالعنف المقدس. و لكن برغم ملئهم للفضاء العام من حيث التوتر و الانشغال بهم، فإنهم كانوا يتحركون كادوات وقتية اشتغلت بهم السلطة القادمة. الجنرال "زين العابدين بن علي" من رحم النظام يظهر كمنقذ من الأزمة السياسية و الاقتصادية. هذا الرئيس الذي استعملهم فتك بهم فتكا حتى انه كاد يمحوهم من خارطة الزمن..
أما التيار العروبي فهو الآخر استورد التجربة الناصرية برغم عدم تملكها لفكر سياسي و إنما لممارسة و خطابات و أهازيج شعرية و أغاني عبد الحليم حافظ و غيره. المحاولة التنظيرية ل"عصمت سيف الدولة" لم تكن إلا ركاكة فكروية فيها سطو على إيديولوجية البعث في مقولة الوحدة و الحرية و الاشتراكية مع تشويه هذه المقولات و مكننتها خطيا و إفقاد روحها الديالكتيكية. كل ذلك (زيادة على البلادة الفكرية و الأسلوبية) كان لأجل البناء المصطنع لما اسماه بإقليم القاعدة كشرط لبناء دولة الوحدة. أي محاولة مفضوحة في فجاجتها ليس في لوي عنق الواقع فقط بل في البهتان التنظيري البائس لأجل تكريس مصر عبد الناصر تبتلع الدول العربية باسم الوحدة القومية و الأمجاد العربية و تحرير فلسطين..
والحق يقال ان الزعيم بورقيبة كان محقا في احتقار هذه الحالة من العبث و الفوضى الفكرية و السياسية، بل انه كان صادقا إلى ابعد الحدود في الاستهزاء بشعارات الوحدة العربية و تحرير فلسطين التي تنفخها أبواق الدعاية الناصرية. و على كل فلم يصمت بورقيبة و إنما عبر عن العقم الكبير الذي يتضمنه ذاك الخطاب و ذاك التوجه السياسي.
وبرغم الحب الذي يكنه التونسيون لجمال عبد الناصر، إلا انه في الأخير يرتكن إلى عقلانية الزعيم بورقيبة الذي حقق رغبة الشعب في التعليم و الصحة و الحرية من المستعمر و تحرير المرأة.
أما البعث العربي ل"ميشيل عفلق" فانه كان أكثر عقلانية في تونس. لم يظهر كحزب أو تيار سياسي و إنما كمجموعة من المبشرين الوافدين من سوريا، و اللذين عملوا على نشر الإيديولوجية ليس بمنطوقها الضيق و إنما في أبعادها الفكرية المختلفة. كانوا مدرسين و كتاب و شعراء تمكنوا من نشر أفكارهم و تسريب عنوان "البعث" في مختلف الاتجاهات السياسية و أهمها الماوية و ما سمي بحركة "البرسبكتيف". أما الفعل السياسي فقد ابتدأ في السبعينات في إطار العمل النقابي. و مع بداية الثمانينات كانت لحظة تركزه كحزب هي لحظة البدء في انحسار انتشاره ان لم نقل أنها لحظة إجهاضه كمشروع فكري منفتح و إجهاضه كذلك كتيار سياسي فاعل في المشهد السياسي التونسي. فبرغم ان حرب 1991 أشعلت الشارع التونسي و أخرجت الآلاف إلى الشوارع تعبيرا عن نصرة العراق، إلا ان جماعة البعث لم تتمكن حتى من مضاعفة زادها البشري نتاج عقمها التنظيمي و تحجرها الإيديولوجي المتحول من الفكر و التعاطي الفكري إلى تبني الصدامية الصنمية و تحويل البعث إلى مجرد لسان دفاع عنها..
الأممية الشيوعية السوفياتية. العروبة الناصرية و الصدامية و الاسدية. الأمة الإسلامية الاخوانية الخمينية الوهابية. كلها ظهرت كترسانات عملاقة تحجب الجسد التونسي و لكن في دائرة أوهامهم فقط.
إلا ان المشهد لم يكن بهذا التوصيف إلا على المستوى السياسي الحزبي. أما على مستوى الأفكار فلا يمكن أبدا نكران تسرب بعض الأفكار اليسارية التي كانت تعبر عن روح الشعب. أهمها على الإطلاق هو روحية التمرد على السلطة و ان كانت تعبر عن نفسها حتى في أشكال في ظاهرها متماهية مع السلطة. السلطة نفسها لم تكن لتخلو يوما من اليساريين بل ان جل الإدارات التونسية بما فيها البوليس السياسي كان في بعضه يحمل أفكارا يسارية. ان فكرة التضامن و التعاون و اعتبار الدولة هي الشعب هي من ضمن الأفكار الشعبية العامة. و لا ننسى كذلك ان النقابيين الفاعلين الأساسيين في عديد المحطات السياسية الكبرى و الثورة هم يساريون. أي ان اليسار قريب من الشعب حين لا يظهر بتمترساته الايديولجية المعروفة. بل ان بورقيبة نفسه يساري مثلما قالت ابنته في إحدى تصريحاتها. كما انه يجدر بنا ان نذكر ان بناء القطاع العام و سياسة التعاضد و التعاونيات و أراضي الدولة الفلاحية كلها أفكار يسارية طبقها بورقيبة في فترة بناء الدولة عن طريق "احمد بن صالح"..
كما ان العروبة العقلانية المتفاعلة مع الفرادة التونسية و المنطلقة من التفاعل مع الواقع التونسي في صياغة عروبة جديدة قائمة على الفلسفة و المنطق و العقلانية عبرت و تعبر عن الروح التونسية كذلك.
إلا الاتجاه الإسلامي فانه لا يعبر عن تطلعات الروح التونسية بقدر ما يعبر عن أزمتها و مأزقها.
وبقدر ما تنفتح هذه المقاربة على أمل إيجاد بناء فكري جديد يعبر فعليا عن روح الشعب و آماله و تطلعاته و فرادته و تميزه و مستقبله المنفتح، بقدر ما تتجه بعفوية نحو الإقرار ببورقيبة كزعيم تأسيسي لتونس الجديدة، برغم ما يظهر من تناقضات ظاهرية. تلك التناقضات التي تظهر كأحداث و صراعات سياسية وقعت، و لكن حين نتعمق في اتجاه المضمون الروحي فإننا نجد نقاطا مشتركة.
هذه النقاط لأجل إبرازها يجب تنحية الماحدث من الحسبان أولا. و يجب الإقرار بعبقرية الرجل المتأتية أساسا من انهماكه في التقاط مراكز الضوء بين ثنايا الروح التونسية و التي كان يغطيها واقع العتمة و الظلام. و نحن لسنا بحاجة إلى الإسلاميين لنهتدي إلى جعل آية "لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" إحدى العناوين من تراثنا في اتجاهنا لبناء المستقبل..
في الوقت الذي كانت فيه الأمة التونسية البورقيبية يتم وصمها بالعمالة و الخيانة و الكفر و الخروج عن الملة و الدين و التاريخ المجيد من العنترية، كان "بورقيبة" يكلم الشعب متباكيا أحيانا لأنه يعلم ان هذا الشعب رحيم و يتمتع بسيكولوجية أخلاقية مرتفعة من الشفقة. كلماته البسيطة و العميقة كانت وحدها تلهب حماسة الشعب و محبته لزعيمه و بلده. الشعب الذي خرج منتفضا في ثورة عارمة و المسماة بثورة الخبز في جانفي 1984، ما ان طلع عليه الزعيم بورقيبة محدثا إياه بأسلوبه الأبوي التونسي ذاك (خاطيني. لا علم لي. يزيدو في الخبز و ما يقولوليش. يحبو يجوعوا الشعب..) حتى انقلب الشعب من الغضب إلى الابتهاج...
هذا الزعيم العظامي المتعاظم. جعل من نفسه عدد واحد في أول بطاقة تعريف تونسية. أراد ان يقول ان تونس ابتدأت منه، و انه الواحد المتجسد في كل الأعداد الموالية.. هل كان يرى في نفسه ذو مهمة رسولية؟ هل كان يرى الواحد ليس تونسيا فقط و إنما تونسيا عربيا و ربما عالميا. الواحد المتجسد لانهائيا في بقية الأعداد الموالية. هل الثورة التونسية عربية و عالمية؟ هل هي ثورة بقدر ما هي ثورة حرية الشعوب و تحملها لمسئوليتها في بناء مصيرها، ام هي استئناف مشروع الحداثة البورقيبي التنويري ضد الجهل و المرض و الطائفية و العقلية القبلية البدوية و الانانية الضيقة؟ هل الثورة استئناف للمشروع البورقيبي مع إقصاء السلطة القمعية الواحدية الدكتاتورية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.