أكد مستشار الدائرة الجنائية في المحاكم التونسية، الباحث في القانون والشؤون القضائية، الصادق العابد أنّ إصلاح المنظومة القضائية هو مطلب شعبي، يتطلّب تحقيقه الابتعاد عن الحلول "الترقيعية"، مشددًا على أن التطهير يتطلّب التخلص من رموز الفساد وانتخاب مجلس أعلى للقضاء وإلغاء وزارة العدل. وأضاف أن "الإصلاح يتمّ بفتح ملفّات الفساد أوّلا، مع التركيز على رؤوس الأفاعي لقطعها كخطوة أولى ودون استثناء أي اختصاص، بما في ذلك الجهات السيادية"، مشيرًا إلى أن المنظومة القضائية تعاني من الفساد المالي والإداري. * في البداية سألناه.. كيف يمكن العمل على إصلاح المنظومة القضائية في تونس؟ ** إصلاح القضاء هو مطلب شعبيّ، وقد قُدّمت من أجله التضحيات الجسام، من قبل العديد، وعبر التاريخ وفي مختلف الحضارات والأمم، وبالتالي فهو ليس من شعارات الثورات الحديثة ولا من مبتكرات الحقوقيين، أو روّاد الفكر الحديث، ولا هو من ديمقراطيات الأنظمة الغربيّة، والتي هي منها براء. ولعلّ منظومة الفساد، إن صحّ التعبير، هي من ثقافات الأنظمة الدكتاتوريّة وهي السرّ الخفيّ في نجاحها الفاشل. وعليه، فإنّ مثل هذه المنظومة نجدها متغلغلة وعامّة في جميع قطاعات الدولة، خاصة مؤسساتها الدستورية، وتحديدًا المؤسسات السياديّة وعلى رأسها القضاء. وما مركز القضاء في الدولة، إلاّ رهن بوادر الإصلاح، وعمقها في فترة انتقاليّة حسّاسة لا تُتاح عادة لكافّة الشعوب، فيكون لزاما علينا جميعا مراعاة التدرّج مع العمق، والابتعاد عن الحلول "الترقيعيّة" والتلفيقيّة، التي لم تعد تجد أذنا صاغية لدى الشّعوب، فالإصلاح يجب أن يتمّ بفتح ملفّات الفساد أوّلا، مع التركيز على رؤوس الأفاعي كخطوة أولى ودون استثناء أي اختصاص، بلا خوف ولا هوادة.. فكيف نخاف ما أجرموا وأذنبوا في حقّ البلاد والعباد، ولا يخافون أنّهم أجرموا وأذنبوا. * ما هي أبرز ملفات الفساد صلب المنظومة القضائية التونسية؟ ** تنقسم ملفّات الفساد إلى إداري وماليّ، ويتعلّق الفساد المالي بحالات الرشوة وما يتبعها، وهو يتعلق كذلك بضرورة تحسين الوضعية المادية للقضاة والكتبة والحجبة، فالأنظمة القديمة من مصلحتها غرس بذور الفساد و"صناعة الرشوة"، وذلك بتجويع مرؤوسيها؛ قصد تركيعهم وترويضهم وتطويعهم، فالاكتفاء الذاتي ماديا هو حافز للاستقلالية ومشجّع لها. أمّا الفساد الإداري، فيمكن مواجهته عن طريق رفع يد رئيس الدولة ووزير العدل عن المجلس الأعلى للقضاء، ما يعني عدم دخولهما في انتداب القضاة والمحامين والخبراء وغيرهم؛ لكي لا تكون انتدابات معاملة ومجاملة، وحتى لا يتحكما في تعيين القضاة. * ما هي متطلّبات إصلاح المنظومة القضائية؟ ** يبدأ تحقيق ذلك، بإلغاء وزارة العدل، فهذا المنصب، طبقا للاتفاقيات الأممية والدوليّة، ما هو إلا منسّق ووسيط بين السلطتين التنفيذية والقضائية، ولكنه أصبح في تونس بمثابة "أنفلونزا العدالة "و "إخطبوط العمالة". فإلغاء هذا المنصب، يجعل من وزير العدل مجرّد عون تنفيذيّ يهتم بالشؤون الإدارية والمالية والاجتماعية للمحاكم، ويترك المجال لمجلس أعلى للقضاء منتخب يضمّ القضاة فقط. * ما هي الضمانات الواجب توفّرها كي يكون لنا قضاء مستقلا؟ ** إنّ الشّعوب المدركة لحقوقها لديها أفضل الفرص لتحقيق استقلال القضاء، فمعرفة كلّ مواطن بحقوقه، وبجوهر هذه الحقوق ولبّها، وهو الحق في قضاء عادل نزيه مستقلّ، هو أوّل و أضمن دفاع ضدّ خطر "الدّوس" على تلك الحقوق، كما أن تُعلّم الفرد حقوقه يُنشئ احترام حقوق الآخرين، ويرشد إلى الطريق المؤدّي إلى مجتمعات أكثر سلما وتسامحا، ومن ثَم بناء ثقافة عميقة أصليّة وأصيلة وشاملة لحقوق الإنسان.. ثقافة تعترف بوضوح أنّ حقوق الإنسان وحرّياته الأساسيّة هي لصيقة بالإنسان بصفته تلك، وهي رهينة قضاء مستقلّ بصفته هذه. يجب التّركيز على النموّ والتطوير للعقليّات، ولوسائل العمل في مجال التنفيذ على مستوى إصلاح المنظومة القضائيّة كاملة ودون استثناء، لاسيّما لجهة استحداث بدائل عن المقاربة التقليديّة؛ القائمة على قاعدة كلّ شيء أو لا شيء. وأنّه ولمّا كانت الحروب والصّراعات والنزاعات والفساد والرشوة والمعاملة والمجاملة والمزايا، تتولّد في عقول البشر، من قضاة ومحامين ومعيني عدالة ومتقاضين، فإن عقولهم يجب أن تبنى حصون التسامح والتآلف والتحابب وقيم العدل والمساواة والعدالة والتوزيع العادل للفرص والامتيازات. * ما الذي يُعيق استقلال القضاء في تونس؟ ** إنّ ما يحول دون تحقيق الاستقلال التام للقضاء، هو انعدام الاستقلالية، بمعنى أن أبناء السلطة التنفيذية، والبوليس السياسي من أبناء القطاع، هم الّذين يحولون ويعرقلون عمليّة استقلال القضاء، فهم يكرّسون من منطلق عدم استقلاليتهم أمام أسيادهم، الحاجز الأكبر أمام بوادر الإصلاح ومجهوداته. ما أقوله، هو ضرورة التركيز على التطهير والتنظيف من القاعدة إلى القمة، بالقضاء على رموز الفساد والرؤوس الكبرى، ثم انتخاب مجلس أعلى للقضاء يعيد وزير العدل إلى دوره الحقيقي، كمنسق وفقا للمعايير الدولية. وفي هذا تكريس لمبدأ الحياد المطلق، باعتبار أن القضاة هم من أهل الدار والذين لا دخل لهم في السياسة ولا التصويت ولا الانتخاب. * عبّرت الحكومة الجديدة عن رغبتها في مراجعة العديد من المراسيم التي صدرت عن هيئة تحقيق أهداف الثورة.. ما تعليقك؟ ** المطلوب الآن، إلغاء المنظومة القانونيّة الاستبدادية، وتعويضها مع نظرة عميقة شاملة ومتكاملة بعيدة المدى؛ لكي لا نضطرّ في كلّ مرّة إلى إصلاح خطأ بخطأ مثله أو أعظم منه، فكلّ ما كان يهمّ المسائل المصيريّة للبلاد والعباد، وما كان منها ماسّا بالمصلحة الوطنيّة العليا والفضلى، تعجز المراسيم عن إدراكها أو حتّى مجرّد التفكير فيها. هذا يعني، أنّ ما صدر من مراسيم عن الحكومة السّابقة، ونخصّ بالذكر ما كان ماسّا بأصل الحقّ ،حقّ الشعب والوطن، وما كان مسرّبا تسريبا، يعدّ لاغ ولا عمل عليه قانونا، وباطل بطلانا مطلقا ودون حاجة للطعن فيه. وهي بذلك فقط مراسيم ملزمة لمن صدرت عنه، دون سواه، ويتحمّل مسؤوليّته القانونيّة كاملة، فيما ستنتجه من آثار مضرّة بالبلاد والعباد. * برز بعد ثورة 14 يناير مصطلح "العدالة الانتقالية".. ما هي متطلّبات إرساء أسس هذه العدالة؟ ** يجب على كلّ دولة، تريد بصفة جدّية طيّ صفحة الماضي وإلى الأبد، أن تكرّس عدالة انتقالية تعامل الحقوق، على أساس شامل، وبطريقة منصفة ومتكافئة، وعلى قدم المساواة وبنفس القدر من التركيز. وباعتبار أنّ العدالة الانتقالية، تأتي في مرحلة ما بعد الحرب أو الثورة أو الانتفاضة، وفي حين أنّه يجب أن توضع في الاعتبار أهمّية الخاصيات الوطنية ومختلف الأبعاد التاريخية والثقافية والدينية، فإنه من واجب الدولة، بصرف النظر عن نظامها السّياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، تعزيز وحماية وإرجاع جميع الحقوق المنتهكة والمسلوبة والمنكوبة والمنهوبة. على العدالة الانتقالية اليوم إجراء المحاسبة والمساءلة والمؤاخذة؛ لأن البناء الصحيح للمستقبل لا يكون إلا بقراءة عميقة للماضي، فالتاريخ وحده هو الفيصل، وهو الشاهد والدليل والمدافع والحكم. وعلى "العدالة الانتقالية" أن تستنبط سبلا ووسائل جديدة لإزالة العقبات القائمة، لمواجهة التحدّيات، فيما يتعلّق بالإعمال الكامل لجميع الحقوق اللصيقة بالبلاد والعباد والوطن والمواطن. * بدأت لجان المجلس الوطني التأسيسي منذ مدّة في صياغة التصوّرات العامّة للدستور التونسي الجديد.. كباحث في الشؤون القانونية والقضائية ما هي تصوّراتكم لهذا الدستور؟ ** إنّ الدستور الجديد عليه أن يأخذ بعين الاعتبار أنّ الديمقراطيّة والتنمية واحترام حقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة،هي أمور مترابطة ويعزّز بعضها بعضا. وأنّ الديمقراطيّة تقوم على إرادة الشعب المعبّر عنها بحريّته في وضع دستوره، ففيه تتحدد المبادئ العامة لحقوقه وآليات التنفيذ الحقيقية لتك الحقوق، وبه نضمن الهيبة الحقيقية للمؤسسات الدستورية للدّولة، والتي بموجبها تُكسبُها شرعيّتها القانونيّة في أعضاء المجتمع الدولي ومنظومته. على الدستور الجديد ألاّ يكون بمثابة "شركة استيراد وتصدير" للأفكار الغريبة، التي أنهكتنا وأنهكت نظمنا، وآلت بنا إلى ما نحن عليه اليوم، وبالتالي علينا أن نعمل اليوم ومن خلال الدستور الجديد على إيجاد نسق قانونيّ يتوفّر، ليس فقط على محتوى معياريّ قويّ يمنح الحماية القانونيّة العليا لقيمنا المشتركة وفق تاريخنا الصحيح وهويّتنا الحقيقيّة، بل وكذلك يتوفر ذلك النسق القانوني على آليّات حقيقيّة تيسّر تنفيذا حقيقيّا له . هنا لا يفوتني أن أذكّر من جديد، أنّه يجب التّركيز على النموّ والتطوير في مجال التنفيذ، فتكون لبِنات التنظيم القانوني من خلال الدستور، مشيّدة لحصون السّلام والتآلف والوئام في عقل المواطن، فمعرفة المواطن بحقوقه هي أفضل وأوّل دفاع ضدّ خطر "الدّوس" عليها، ولكن ومهما يكن تطور التقنين، يبقى للقضاء ومركزه الفعلي في الدستور، الأهمية الأولى في حماية الدستور وحماية من أراد الدستور نفسه أن يحميه.