تبدو الانتحابات القادمة تجديدا لسابقاتها، روتين شكلي يحرم المواطن التونسي من ممارسة حقه الدستوري في اختيار حكامه ونوابه، ومشاهدة جدالات حقيقة تقيّم اداء السلطة وتفحص خيارات معارضيها. وبقدر ما اهتم التونسيون وتشوقوا لمتابعة أخبار الانتخابات في بلدان عديدة، مثل امريكا وفرنسا وحتى موريطانيا وإيران، بقدر ما يشعرون بالاقصاء والإهانة فيما يتعلق بالاقتراع الداخلي... سيستمر المواطن التونسي في مواجهة الحدث بلامبالاة جلية واحتقار دفين لما تمثله من تجاهل لتطلعاته بعد نصف قرن من الاستقلال... باستثاء تجربة يتيمة سنة 1981 اتاحت للمقترعين التعبير عن إرادتهم العارمة في رفض خيارات السلطة، قُوّضت ببطش. تقويض إرادة الناخبين ليس قضاء وقدرا لايرجع استمرار أمر تقويض إرادة الناخبين إلى تعنّت السلطة في اقصاء المواطن من المشاركة في الحياة العامة وإحتكار الفضاء العام وتطوريرها لتقنيات التزوير والتعتيم فحسب، وإنّما يعود أيضا لإخفاق معارضيها في إيجاد سبل جدية لتغيير قواعد اللعبة، رغم تعدد الخيبات الانتخابية. غير أن المجتمع التونسي طالته حركية احتجاجية جديدة، لابد ان تنعكس على الشأن السياسي ويكون لها تأثير على المعادلة الانتخابية أن توفّرت لها السبل. "سباق المرسيدس والدراجة" أنحصر رهان الرئاسية في إضفاء شرعية على بقاء بن علي في السلطة بعد خرقه لقواعد الجمهورية بإلغاء تحجير الترشح لأكثر من ثلاث دورات والتنكّر للتعهّد بإلغاء الرئاسة مدى الحياة الذي قطعه عند وصوله إلى سدة الحكم سنة 1987. كما ضمن استبعاد أبرز معارضيه، معينا مرشحين "منافسين" له يغالي جلّهم في مدحه. كما أن بن علي لن يقبل أن يخضع أدائه للتقييم والنقاش خلال حصص تلفزية، ولذلك ستبقى الرئاسية، مثلما وصفها معارض سنة 1999، "سباق بين سيارة مرسيدس ودراجة" . من المستبعد أن يتوهم المشارك في مثل هذه التظاهرات أن يكون له حظا في السباق. ولا ندري كيف يرضى عاقل بحصر دوره في تسلية الجمهور؟ التشريعية ضحية المحاصصة وأوهام الكيانات الحزبية على خلاف الرئاسية تتيح التشريعية - على الورق - مجالا أوسع للتنافس. حرية الترشّح متوفّرة مبدئيا لمنتقدي السلطة. مثلما تتوفّر مجلات لإخضاع خيارات السلطة للتقييم والنقد حتى وإن لم ترق إلى حصص حوارية على وسائل الاعلام السمعي البصري. إلا أن عوامل عديدة حالت دون استغلال ثغرات التشريعية لمقاومة التزوير الانتخابي وتعبئة المواطنين وانتقاد السياسات الرسمية. في طليعتها اعتماد نظام المحاصصة التي تضمن آليا نسبة من النواب خارج قائمات الحزب الحاكم. أدخل هذا التعديل سنة 1994 على النظام الانتخابي الموروث عن عصر الحزب الواحد قصد ملاءمته مع التعددية الصورية. وانجرّه عنه تحويل محور المنافسة الانتخابية من السعي المعلن لهزم مرشحي الحزب الحاكم إلى إدكاء التنافر بين الكتل من أجل كسب ودّ دوائر القرار التي بيدها تعيين من ينتفع من المحاصصة. وأعتمدت المحاصصة أيضا الحوافز المالية والسياسية ممّا أدى إلى تسارع انخراط الاحزاب في المنظومة الجديدة وإعلان تحمسّهم في مساندة الحكم. وبقيت كل التشكيلات الحزبية المشاركة سجينة لهذه اللعبة بما فيها الأحزاب التي طورت خطابا معارضا (ابتداء من 1999) إذ تجنّبت إلى حد الآن الإعلان عن رفضا قطيعا للانتفاع بالمحاصصة وتعيين مرشحيها على يد صانعي التزوير بوزارة الداخلية. وتبعا لذلك تتسابق الأحزاب في الترشّح في أكثر ما يمكن من الدوائر بوهم كسب رصيد في سباق المحاصصة، بالرغم من ان حضورها الحقيقي على الميدان لا يتوافق مع حجم طموحها. وقاد هذا المنطق إلى توسيع القائمات للعناصر الانتهازية وإلى اتاحة الفرصة للاجهزة الامنية باختراقها. شُتّتت القوى الحزبية الضعيفة بدل أن تجمع للتركيز على كسب المعارك الجزئية. فمن وراء الإعلانات الانتصارية السابقة للمعركة يعرف القاصي والداني أن جميع الكيانات الحزبية تفتقد إلى أدنى القدرات البشرية والتنظيمية والمادية والتكوين السياسي للحضور في جانب ضئيل من مكاتب الاقتراع ويحول دون وقوفها بجدية في وجه أليات التزوير الانتخابي. كما ينجرّ عن ثقافة تسبيق الرهانات الحزبية الخاصة على الرهانات الوطنية التخلي عن أي مسعى لتشكيل الائتلافات الانتخابية رغم التقارب في السياسات والأساليب. فبصرف النظر عن اختلاف المصالح الخصوصية - شخصية كانت أم تنظيمة – التي قد يتمّ التغلّب عليها، تبقى الرغبة في الانتفاع بالمحاصصة هي العائق المعلن للعزوف عن تشكيل قوائم ائتلافية بين الأحزاب، وهو الأمر الذي بقدرما تخشاه السلطة يحبّذه المواطن. فرضية القائمات المستقلة في انتظار تطورات محمودة على مستوى الكيانات الحزبية، يتسع المجالمن جديد أمام القائمات المستقلة حتى تساهم في تحرير الفضاء العام وتشرّك شرائح وطاقات عصيّة عن التجاوب مع الكيانات الحزبية. هذه الظاهرة تراجعت قويا منذ اعتماد المحاصصة بعد برزت كمؤشرا للانفتاح النسبي للفضاء العام في ثمانينات القرن الماضي إثر التخلّي نظام الحزب الواحد. وسجلت نجاحا ملفتا خلال تشريعية 1988 الجزئية في المنستير وفي قفصة، وعرفت أوجها بفوز القائمة المستقلة في الشابة خلال بلديات 1990. كان اهتمام السلطة في تلك الفترة منصبٌ شبه كليا على محاصرة الاحزاب المعارضة وبالدرجة الأولى حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي سجلت تفوقا تاريخيا في انتخابات 1981. وسعت السلطة، احيانا، الى إبراز الظاهرة الاستقلالية لتهميش الاحزاب المعارضة. كما يعود تراجع القائمات المستقلة إلى مناخ الرعب الناتج عن الخيار الأمني وإطلاق حملة قمعية واسعة طالت حركة النهضة إثر مشاركتها في انتخابات 1989 ضمن "قائمات مستقلة" والتي استهدف مرشحيها بصفة خاصة. وساهم الخناق الذي ضربته السلطة على المجلس البلدي المنتخب بمدينة الشابة، اثر فوز القائمة المستقلة اليسارية سنة 1990 وما سلط من ضغوط على اعضائه، في ذلك التراجع. هكذا صار من الصعب على القائمات المستقلة أن تحمل لوحدها عبء "إفساد اللعبة" ممّا دفع نسبة هامّة من المستقلين إلى الالتحاق بالقوائم الحزبية. من شأن هذه الفرضية، لو تجسّدت، أن تساهم في تجنيد جانب من القوى التي برزت خلال التحركات الاحتجاجية الأخيرة ورموز المجتمع المدني. وينتظر منها أيضا أن تخفف من الحصار المفروض على حملات الأحزاب الديمقراطية وأن تتفاعل معها في تعبئة الرأي العام ولفت اهتمامه إلى تناول القضايا الجوهرية. وبإمكانها أيضا تعزيز الكفاح ضد التزوير على الوجه الافضل لأنها غير معنية بالمحاصصة ومشغولة أساسا بهزم قوائم الحزب الحاكم. "أصوات الناخبين ولا تعيينات المدلسين" وعلى الرغم من الخيبات المتتالية واليأس الذي أفرزته تبقى المشاركة الانتخابية السبيل الوحيد لبناء ائتلاف يحمل بصدق تطلعات التونسيين في التخلص من الاستبداد. إنّ إعادة المصداقية للمشاركة الانتخابية تقتضي بالضرورة إعطاء الأولوية المطلقة لمقاومة التزوير. وفي هذا المضمار يمكن تجنيد فعاليات من المحامين والحقوقيين والنقابيين لمساعدة القوائم التي تعتمد "أصوات الناخبين لا تعيينات لمدلسين" شعارا لمشاركتها. نحن في أمس الحاجة إلى تراكم الخبرة الميداني وتحسين أداء الديمقراطيين خلال الانتخابات عبر دعم التواصل مع المواطن التونسي وتشجيعه على الخروج من السلبية، إذ تبقى نداءات المقاطعة غير قادرة - مهما تجذرت لهجتها - على إحراج السلطة وبعثرة أوراقها وإقامة الحجة عليها.