خمسة أيام تفصلنا عن السابع عشر من ديسمبر موعد اشتعال أول فتيل للثورة التونسية، بعد قيام محمد البوعزيزي بحرق نفسه احتجاجا على الأوضاع الاجتماعية المتردية لعائلته. وبعد مرور أحد عشر شهرا من فرار رمز الديكتاتورية في البلاد التونسية،انتخب ممثلو الشعب في المجلس الوطني التأسيسي الدكتور منصف المرزوقي رئيسا للجمهورية الثانية، بعد أن نجح أعضاء المجلس في أول مهمة لهم وهي المصادقة على مشروع التنظيم المؤقت للسلط العمومية بعد سلسلة من الجلسات التي تواصلت إلى حدود ساعات متأخرة من الليل توجت في الأخير بالمصادقة على "الدستور الصغير". تتويج لم يكن من السهل تحقيقه، خاصة مع حداثة ممارسة الديمقراطية في الأوساط السياسية، بعد عقود من أحادية الحكم في تونس وعدم تقبل الرأي المخالف، ومعارضة "صورية" لم تكن تقوم بأي دور سوى إعطاء شرعية مزيفة لحكم بن علي، كانت هذه هي الظروف الداخلية للمجلس زادت في حدتها الضغوطات الخارجية من اعتصامات واحتجاجات التونسيين من أصحاب الحقوق الضائعة من جرحى الثورة وغيرهم من العسكريين. ورغم كل هذه العراقيل فقد تمكن المجلس الوطني التأسيسي من المصادقة على الدستور الصغير بأغلبية أعضائه، مصادقة من الطبيعي أن تتبع بإعداد ملف المترشح للرئاسة، وكانت إجراءات تكوين ملف ترشيح الدكتور منصف المرزوقي، قد انطلقت مباشرة بعد المصادقة على الفصلين الثامن والتاسع المتعلقان برئيس الجمهورية من الباب الرابع حول السلطة التنفيذية، ودار الفصلين حول الشروط التي لا بد أن تكون متوفرة في الرئيس وكيفية انتخابه. الفصل الثامن كان من بين الفصول التي دار حولها جدل كبير خاصة في النقطة المتعلقة بجنسية المترشح للرئاسة، وقد استمات أعضاء المجلس عن العريضة الشعبية في الدفاع عن حق التونسي الذي يحمل جنسية أخرى في الترشح إلى رئاسة الجمهورية، أيمن الزواغي وإبراهيم القصاص عضوين بالمجلس الوطني التأسيسي، لم يتوانا عن قول أن تونس تقف على عدم ترشح الهاشمي الحامدي رئيس قائمة العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية بسبب حمله للجنسية البريطانية، التي لن تسمح له بالترشح إلى الرئاسة حيث ورد في الفصل "يشترط في المترشح أو المترشحة لرئاسة الجمهورية أن يكون تونسيا مسلما غير حامل لجنسية أخرى مولودا لأبوين تونسيين بالغا من العمر على الأقل خمسا وثلاثين سنة". في المقابل أكد السيد الطاهر هميلة عضو المجلس على أن يكون رئيسنا القادم "تونسيا أصلا ومفصلا"، كلمة لقت تصفيقا من كتلة الائتلاف الثلاثي ولكن في المقابل، لم ترق إلى النائبة نادية شعبان ممثلة القطب الديمقراطي الحداثي بالمجلس الوطني التأسيسي، التي اعتبرت ذلك إقصاء، بما للكلمة من معنى، لمليون ومائتي ألف تونسي موجودين في فرنسا وحرمانهم من الترشح إلى رئاسة الجمهورية بسبب حملهم لجنسية أخرى. وبعد الجدل الذي دام أكثر من ساعة حول الفصل المذكور، لم يتم الأخذ بعين الاعتبار مقترح إلغاء إلزامية عدم حمله لجنسية أخرى وتم الإبقاء على الصيغة الأولية القاضية بأن يكون تونسيا غير حامل لجنسية أخرى. بعد المصادقة على هذا الفصل والذي تلاه، أصدر رئيس المجلس الوطني التأسيسي بلاغا حول ملف الترشح للمنصب المذكور. ومن بين الوثائق المكونة للملف، وثيقة ترشيح تتضمن أسماء وإمضاء عشرة أعضاء من المجلس الوطني التأسيسي على الأقل، لذلك قام أعضاء المجلس من حزب المؤتمر من اجل الجمهورية بكتابة عريضة يرشحون فيها الدكتور منصف المرزوقي لرئاسة الجمهورية، عريضة مثلت بداية إعداد ملف الترشح بالنسبة إلى الدكتور منصف المرزوقي مرشح الائتلاف الثلاثي. واثر المصادقة على القانون التأسيسي للتنظيم المؤقت للسلط العمومية، دعا رئيس المجلس الوطني التأسيسي إلى جلسة عامة لانتخاب رئيس الجمهورية. وتقدم عشرة تونسيين بملفات ترشحهم إلى رئاسة الجمهورية، رفضت كلها بسبب عدم استكمال الملف ونقصانه من وثيقة ترشيح تتضمن أسماء وإمضاء عشرة أعضاء من المجلس الوطني التأسيسي على الأقل. ورغم تأكيد نواب المعارضة ترشيحهم لأحد الشخصيتين البارزتين في الأوساط اليسارية إما السيد احمد إبراهيم أو السيد احمد نجيب الشابي من اجل تجنب العودة إلى عصر المترشح الواحد والفائز الواحد على مدى عقدين من الزمن، رغم ذلك فقد تراجعوا عن ذلك ولم يرشحوا أي واحد منهما، لأسباب متعددة عبر عنها السيد عصام الشابي على لسانه كالآتي: "صوتت المعارضة تصويتا ابيضا للتعبير عن موقفها الرافض لانتخابات تُعرف نتائجها مسبقا، لأول مرة أتيحت لنا فرصة انتخاب رئيس للجمهورية بصفة ديمقراطية، لكن أبت قوى الأغلبية إلا أن يكون غير ذلك، من جهة أخرى مثلت نقطة عدم ضبط مدة زمنية معينة للمجلس الوطني التأسيسي ولرئاسة الجمهورية من مسببات رفض المعارضة التصويت على انتخاب الرئيس من عدمه وخيرت التصويت الأبيض للتعبير عن موقفها الرافض لانتخاب رئيس دون صلاحيات، رئيس تخلى عن كل امتيازاته من أجل رئيس الحكومة، رئيس مرشح من حركة النهضة التي تخلت عن رئاسة الجمهورية وأعطت كل الصلاحيات إلى رئيس الحكومة لأنه من الحركة، وهو ما يمثل اختلالا كبيرا في السلطة التنفيذية التي من المفترض أن تتوزع بين الرئيسين، للحفاظ على مؤسسات الدولة وعلى الحياة السياسية". إبراهيم القصاص عبر عن موقفه بطريقة مختلفة عن زملائه في العريضة الشعبية، فقد رفض التصويت البتة ولم يختر التصويت الأبيض، معترضا على الفصل الثامن من القانون التأسيسي المنظم للسلط العمومية الذي يؤكد ضرورة أن يكون المترشح تونسيا غير حامل لجنسية أخرى، موقف عبر عنه بكتابة العديد من اللائحات على غرار "أنا غاضب، التمثيل غير مقنع للشعب" و"المسرحية فاشلة، أضعنا وقت الشعب التونسي بما فيه الكفاية" و"الشعب ينتظر التشغيل والخبز والدواء وليس توزيع الغنائم"... مواقف مختلفة في صفوف المعارضة عبر عنها السيد عبد الكريم الهاروني عن حركة النهضة بأنها رسالة سلبية للرأي العام. وحسب الفصل الرابع عشر من القسم الثاني المتعلق بالحكومة من الباب الرابع المتعلق بالسلطة التنفيذية "يكلف رئيس الجمهورية بعد إجراء ما يراه من مشاورات مرشح الحزب الحاصل على اكبر عدد من المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي بتشكيل الحكومة"، ولم تكن هذه النقطة في معزل عن الجدل حيث أكد السيد سمير بالطيب خلال مداولات المجلس الوطني التأسيسي معرفته للشخص الذي سيتولى رئاسة الحكومة المتمثل في السيد حمادي الجبالي الأمين العام لحركة النهضة، وكانت وسائل الإعلام قد أوردت ذلك في غير مناسبة، وحسب الفصل الرابع عشر "يقوم رئيس الحكومة المكلف طبق الفقرة الأولى بتشكيل الحكومة وينهي نتيجة أعماله إلى رئيس الجمهورية في أجل لا يتجاوز خمسة عشر يوما من تاريخ تكليفه ويتضمن الملف تركيبة الحكومة وبيانا موجزا حول برنامجها". وأشار السيد عبد الباسط بالشيخ عضو بالمجلس الوطني التأسيسي وممثل حركة النهضة عن دائرة منوية، أشار إلى البعض من المناصب التي تحصلت عليها النهضة في الحكومة، حيث من المنتظر أن يتولى سمير ديلو وزارة حقوق الإنسان وسيكون كذلك الناطق الرسمي باسم الحكومة المقبلة، وسيتولى نور الدين البحيري وزارة العدل وبالنسبة إلى وزارة الداخلية فستكون تحت ولاية علي العريض والخارجية للسيد رفيق عبد السلام وسيتولى الدكتور منصف بن سالم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والسيد محمد بن سالم وزارة الفلاحة. على هذا الأساس، لن يصعب على السيد حمادي الجبالي تعيين حكومة في الحيز الزمني المتوفر لديه الذي تم تنقيحه من واحد وعشرين يوما إلى خمسة عشر يوما. مع بداية ظهور ملامح الحياة السياسية للبلاد التونسية، تبقى ملفات جرحى الثورة على مكاتب وفي رفوف الوزارة في انتظار معالجتها وتعويض عائلات الشهداء عن فقيديهم والتكفل بجرحى الثورة ماديا وعلاجهم مجانيا في المستشفيات التونسية.