في الليلة الفاصلة بين 6 و7 مارس الجاري قامة مجموعة من الإرهابيين بالهجوم على ثكنة عسكرية في مدينة بن قردان التي تقع أقصى الجنوب التونسي وهي منطقة حدودية عرفت العديد من الاضطرابات في فترة ما بعد ثورة ديسمبر 2010/ جانفي 2011 بسبب مطالبة أهالي المنطقة بالتنمية والتشغيل بعد أن تم التضييق عليهم من طرف الدولة في ممارسة النشاط الحيوي الوحيد بالجهة وهي التبادل التجاري مع الجارة الشقيقة ليبيا ( وإن بطرق غير قانونية في أغلب من الأحيان…) لقد مثل اضطراب الأوضاع في ليبيا والتنافس على الحكم بين مختلف الفصائل والقبائل والمجموعات المسلحة في الشقيقة ليبيا مصدرا للتوتر في العلاقات بين البلدين الشقيقين إضافة إلى بعض المواقف السياسية التي كانت تتخذ من هنا وهناك بناء على حسابات إقليمية ومحاور إقليمية وحتى دولية ذات مصالح متناقضة تأثر بشكر كبير ومباشر على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسكان المنطقة الحدودية من الجنوب التونسي وخاصة بن قردان التي تعد أهم معبر بري بين البلدين والتي يعد المعبر الذي تم غلقه في الكثير من الأحيان شريان الحياة الأساسي في المنطقة… وكان في كل مرة يغلق فيها المعبر تثور ثائرة السكان المحليين ويدخلون في مواجهات مع قوات الأمن في الجهة مما أعطى الانطباع لدى الكثيرين أن أهلي المنطقة هم في عداء مع السلطة والدولة الممثلة في قوات الأمن والشرطة التي يتم استهدافها في كل مرة … كما أن التهم التي كانت تكال من بعض الأطراف السياسية من هنا وهناك عن تغلغل الفكر السلفي الجهادي المتطرف في المنطقة كثيرا ما يطفو إلى السطح إثر كل توتر للأوضاع بالمنطقة. حتى أن هناك من أكد وجود إمارة " إسلامية " بالمنطقة وأنها تسعى لفصل منطقة الجنوب والاستقلال به عن سائر مناطق البلاد وجعلها رأس حربة في مشروع تحويل كامل البلاد إلى إمارة " إسلامية " … هذه النظرة المليئة بالشك والريبة تعمقت لدى جزء من الجماعات و الأحزاب السياسية (منها من هو في الحكم حاليا ) إثر ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة حيث أن جهة الجنوب كانت عن بكرة أبيها في صف منافس الرئيس الحالي للجمهورية… وهو ما زاد في تعميق الشعور بعدم الثقة في أهالي المنطقة ونواياهم…. هذه المعطيات لم تكن خافية على أحد… ومن قام بتلك العملية الغادرة الجبانة من المجرمين والإرهابيين كانوا يعتقدون أن كل تلك المعطيات ستكون في صفهم وأنهم سيستقبلون بالورود والترحاب من طرف سكان المنطقة … ولكن العكس تماما هو الذي حدث… لقد كان هناك شعور عميق لدى سكان " بن قردان "بالانتماء للوطن ( رغم كل التهميش والنظرة الدونية التي تعاملت بها دولة الاستقلال مع المنطقة برمتها طيلة ما يربو عن النصف قرن) لقد وجد المجرمون في ومقابلهم مجتمعا متماسكا واعيا مدركا لطبيعة الأمور وحقائقها ورافض لكل ما من شأنه أن يمس بأمن الوطن والدولة واستقرارها ووحدة ترابها…. وكان ذلك النصر الباهر الذي أذهل المهاجمين الغادرين وأبهر الملاحظين والتابعين… ولكن ماذا بعد؟؟؟ وكيف تم التعامل مع نتائج هذه الجولة من المعركة التي يبدو أنها ستكون طويلة مع مثل هذه المجموعات التي من الأكيد أنها لن ترمي المنديل بهذه السهولة ؟؟؟ هل حقا أن الجبهة الداخلية تمتلك من التماسك والصلابة ما يجعلها عصية على الاختراق والانهيار وأنها ستحطم كل مشاريع اختراق المجتمع التونسي وتركيز موطئ قدم للمجموعات الإرهابية بتونس؟؟؟ أم أن ما حدث حدث بالصدفة وأنه ما في كل مرة تسلم الجرة؟؟؟ إن المتابع للمواقف والتحاليل والتصريحات التي تلت تلك الملحمة البطولية لأبناء منطقة بن قردان وللعناصر الساهرة على حمايتها من وحدات جيش ومن وحرس… يستنتج ما يلي: 1. الفرق الكبير بين ردة فعل القوات المتواجدة على أرض المعركة وأهالي المنطقة تجاه ما حدث وبين ردة فعل ما يسمى "بالنخب السياسية والمثقفة والإعلامية والحاكمة " في البلاد حيث أن الأولى تعاملت مع العملية بكل بطولة وجرأة وتضحية دون حسابات ودون بحث عن مقابل ودون محاولة توظيف انتهازي… لقد كان الواعز عندهم هو حب الوطن والغيرة على حرمته فالأرض هي العرض وهي الشرف وهي الكرامة عند أهل المنطقة ومن ينتهك الأرض فقد انتهك العرض…أما من يطلقون على أنفسهم اسم السياسيين والإعلاميين والمثقفين عندنا فقد هرولوا كلهم دون استثناء كعادتهم إلى وسائل الإعلام للركوب على الحدث والظهور بمظهر الأبطال الفاتحين… ولاستغلال ما حدث إما لتصفية حسابات سياسية ضيقة وكيل للتهم جزافا لبعض الخصوم لسياسيين من أجل تأليب الرأي العام ضدهم… أو يستغلها البعض لتلميع صورتهم بتقديم تصريحات شعبوية موغلة في السوقية والرداءة استرضاء للجماهير… أو بتضخيم ما تم انجازه لإعطاء انطباع خاطئ بأن تونس على غاية من القوة (خاصة من الناحية العسكرية ) بما يخلق شعورا زائفا بالاطمئنان والارتخاء ويضعف من حالة التأهب .. بينما الحقيقة تؤكد وجود العديد من الهنات التي من متأكد اليوم التعجيل بتداركها بعد هذا الإنذار الأول من الإرهابيين… وعلى النقيض هناك يشكك في كل شيء ويسعى بكل قوته من أجل أن يحبط العزائم ويستغل المنابر الإعلامية لإدخال الشك في النفوس وللتأكيد على أن ما حدث كان مجرد صدفة وأن الجيش والأمن التونسي لا يمتلكون الأدوات والوسائل الكافية للتصدي لهذه المجموعات الأكثر عدة وعتادا وتمرسا على القتال ورغبة في النصر وأنه لا بد من تحويل البلد إلى دولة عسكرية تضع كل إمكاناتها لفائدة الحل الأمني … 2. تواصل التخبط على مستوى القرار السياسي وعدم وجود قرارات في مستوى الحدث تضرب على يد كل المتلاعبين والمتاجرين بآلام ومآسي هذا الشعب … ممن يحاولون نشر البلبلة في صفوف المجتمع خدمة لأجندات خارجية ولأطماع سياسية دنيئة وغير شريفة… تتنافى مع ما أظهره المواطن التونسي والجندي التونسي والأمني التونسي من وحدة وتلاحم ووعي. فحرب التخوين وانفلات التصريحات التي تصل في بعض الأحيان حد إفشاء الأسرار الأمنية والعسكرية وقنوات التحريض والفتنة وتواصل الغموض فيما يتعلق بالعديد من الملفات والقضايا على غرار ملف الاغتيالات السياسية وقضية الأسلحة التي ظهر فيما بعد أنها مجرد ألعاب أطفال وقضايا الموت الغامض للعديد من الشخصيات الوطنية على غرار طارق المكي وفوزي بن مراد و قضية التصريحات الخطيرة لمعز بن غربية التي تحولت بعد ذلك إلى مجرد هلوسات… والدولة في كل هذا غائبة إضافة إلى تنمر بعض القطاعات وتهديدها لأمن الدولة على غرار التحركات التي قامت بها بعض النقابات الأمنية التي اقتحمت قصر قرطاج…. كل هذا يؤكد أن الدولة بمفهومها الحقيقي وشامل غائبة تماما ولا توجد إلا على الورق أو في مخيلة البعض… 3. إرسال رسائل غير إيجابية عن الوضع الداخلي بالبلاد التونسية…. معاكس تماما لتلك الصورة الناصعة التي تجلت إثر ذلك النصر الباهر الذي تحقق على الإرهاب في بن قردان… وكأن البعض لا يريد لهذا الوطن أن يعرف الاستقرار وأن يستعيد ثقته بنفسه وثقة الآخرين به… فهم يشككون في كل شيء … ويضربون البعض بالبعض… ويضخمون بعض الأحداث والتصريحات ويعتمون على أحداث وتصريحات أخرى… هم يرحبون ويهللون ويكبرون لتدخل بعض الأطراف الأجنبية ذات النوايا الخبيثة والمعروفة بعدائها التاريخي للمنطقة وشعوبها وينهالون تخوينا وتحقيرا على أطراف أخرى تريد أن تقدم يد العون والدعم لهذا الوطن وهذا الشعب وإن كان ذلك لا يخلو من مصالح مشتركة أيضا… 4. مواصلة الطعن في الثورة وفي مخرجاتها وفيما يمكن أن تقدمه للوطن والشعب… ففي خضم الحديث عن التصدي البطولي من الأمن والجيش والمواطنين للعصابات المجرمة من الإرهابيين كثيرا ما كان يتم التلميح والإيحاء بأن كل ذلك ما كان ليكون ( أي وجود مجموعات إرهابية ) لولا أن الشعب ثار ضد النظام السابق الذي كان يوفر الأمن والرفاه الاقتصادي للشعب وكان يمنع ظهور مثل هذه المجموعات المتطرفة … وأن كل الذي يحدث هو نتيجة حتمية لارتفاع منسوب الحرية الذي حضي به المواطن بعد الثورة وأن المطلوب هو العودة إلى ما كان من سياسات دكتاتورية وبطبيعة الحال لا يقدر على القيام بذلك إلا أبناء المنظومة القديمة التي تدعي أنها بانية تونس الحديثة وناحتة الشخصية التونسية الحديثة. 5. تغييب وتزييف الوعي الوطني وإلهائه عن القضايا الحقيقية والتحديات الضخمة التي تعترض طريق بناء دولة محترمة ونظام كفوء ومنضبط وتخليص البلاد من غول الفساد الذي أصبح ينخر كل مؤسساتها والذي يعد اليوم أكبر داعم للإرهاب وحاضن له… وذلك من خلال تحويل كل الأنظار نحو الإرهاب والمجموعات الإرهابية وضرورة التنازل عن كل الاستحقاقات من أجل التفرغ فقط للقضاء على الإرهاب… خلاصة القول .. إن المتابع لكل التصريحات وكل المواقف لمختلف الأطراف ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بما حدث في "بن قردان" لا يمكن إلا أن يشعر بالخوف مما هو آت… ليس بسبب ضعف جيشنا وقواتنا الأمنية … وليس بسبب هشاشة البنية المجتمعية وضعف الواعز الوطني عند المواطن التونسي.. وليس بسبب الضائقة الاقتصادية والغضب والاحتقان الاجتماعي الذي تعرفها العديد من الجهات المحرومة… وإنما بسبب انفلات الطبقة السياسية المتكالبة على الحكم وعلى تصفية حسابات إيديولوجية عاف عليها الزمن ووجود العديد من اللوبيات المتنفذة المافيوزية والمرتبطة بأطراف خارجية وأجندات أجنبية ليس من مصلحتها نجاح التجربة التونسية ولا أي انتقال حقيقي في المنطقة نحو دولة العدل والأنصاف والسيادة الوطنية والتوق نحو الأفضل… فإلى متى نبقى تحت رحمة هذا الغول الذي يسمى الفساد الذي يعد الإرهاب واحدا من بين تمظهراته ( صوره ) زالتي تخرج علينا في شكل مجموعات أو بالأحرى عصابات إجرامية لا غاية لها سوى تبرير التدخل الأجنبي وتدمير الأوطان وإجهاض الثورات كما رأينا ذلك في العراق واليمن وسوريا وليبيا وغيرها…. التخلص من الإرهاب في بلادنا … يمر حتما بالقضاء على الفساد بمختلف أشكاله… أما غير ذلك فإنه مجرد ذر للرماد في العيون….