تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملحمة بن قردان... درس للتّاريخ والجغرافيا
نشر في التونسية يوم 23 - 03 - 2016

سيظل يوم 7 مارس 2016 خالدا في تاريخ تونس الحديثة وفي تاريخ بلدة بن قردان بالتحديد. فما جرى لم يكن مجرد حدث إرهابي تعاملت معه قوات الأمن بماهو مطلوب وإنما هو أخطر من ذلك بكثير. فالعملية الإرهابية كانت تطمح لتنصيب إمارة داعشية في بلدة بن قردان في مرحلة أولى ليتم بعدها مباشرة السيطرة على كل منطقة الجنوب من قابس إلى مدنين إلى تطاوين عبر الإسناد من داخل الجمهورية وخارجها. ولكنها فشلت فشلا ذريعا وفي وقت قياسي وحتى عدد الشهداء لم يكن كبيرا بالنظر إلى حجم العملية من حيث الإعداد والتخطيط. هذه الحادثة كانت محل دراسة من طرف الاستاذ الجامعي والكاتب المهدي ثابت منشورة بمركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية.
التّشابه مع أحداث قفصة 1980:
اختيار بن قردان لتكون إمارة داعشية لم يكن من فراغ وإنما هو أمر له وجاهته من وجهة نظر أصحابه. إذ من المعلوم أن بن قردان منطقة حدودية ممتدة على فضاء صحراوي شاسع إلى الحدود مع ليبيا. وهذا أمر حيوي ومهم للجماعات الإرهابية القادمة من القطر الليبي الشقيق الذي بدوره يعيش فوضى أمنية كبيرة. فهذا العامل يسهل تسلل المجموعات الإرهابية ويساعد في إدخال الأسلحة والسيارات وهو ما حصل فعلا. فبن قردان بالنسبة لمن خطط للعملية هي نقطة التقاء قوات الإسناد من الغرب والشرق أي من داخل الجمهورية ومن ليبيا وحتى من الجزائر فالفضاء الصحراوي هو مجال حيوي لنشاط هذه المجموعات. كما أن وجود عدد من شباب المنطقة الذي انضم للتنظيم من سنوات وأصبح محل ثقة القيادات مكّن من تخزين السلاح في أماكن مختلفة يصعب الوصول إليها أو التفطن لها . ولكن مشكلة العقل المدبر أنه لم يقرأ التاريخ وإنما اعتمد مقاربات ظنية جعلت كامل المخطط يسقط بالضربة القاضية. وكانت العملية شبيهة جدا بالتي وقعت في قفصة سنة 1980. رغم الاختلاف في الفكر والأهداف بين المشرفين على العمليتين. فالمعلوم أن عز الدين الشريف الرجل الثاني في قيادة عملية قفصة بعد أحمد المرغني قد سبق المجموعة إلى قفصة بنية التهيئة للعملية ثم أرسل للقيادة في طرابلس بأن الأرضية ممهدة وأنه بإطلاق أول رصاصة سينضم إلى المجموعة عشرة آلاف مقاتل وسيتم السيطرة على المدينة بسهولة ليتم بعد ذلك الإسناد الجوي من الطائرات الليبية وتتم السيطرة على كامل منطقة الجنوب التونسي بمساعدة قوات على الأرض قادمة من ليبيا. ولكن بمجرد انطلاق العملية وجد عناصر المجموعة أنفسهم وحدهم في العراء أمام فيلق من الجيش التونسي بقيادة العقيد عز الدين بالطيب الذي أفشل العملية كاملة في ظرف 48 ساعة وتم قتل واعتقال أغلب عناصر المجموعة .إن من خطط لعملية بن قردان لم يتخيل هذا السيناريو ولم يضعه في اعتباره وإنما نظر إلى سرت الليبية وإلى الموصل العراقية حيث الواقع يختلف بالجملة والتفصيل عن بن قردان إذ كان يتصور أن أهالي المدينة سيرحبون بالمهاجمين وسيؤيدونهم بالنظر إلى حالة التهميش التي تعيشها وأن هذا سبب كاف لتأييد هذا التنظيم وسيناريو سرت والموصل سيتكرر مع بن قردان وربما كان المخطط أو المخططون يتوهمون أن بالمكان حاضنة شعبية بالنظر لعدد الشباب من هذا التنظيم من أبناء المدينة المنتشرين في سوريا والعراق وليبيا . ولكن كل تقديراتهم في الأخير كانت خاطئة تماما كأشباه المحللين وأشباه الخبراء في التنظيمات الإسلامية الذين اعتبروا أن هذه المدينة منبت للإرهاب والتهريب حتى أصبحت هذه المقولة متلازمة يرددها كل من هبّ ودبّ.
الأثر الإعلامي للحدث :
ولكن لسائل أن يسأل لماذا حظيت هذه العملية بكل هذا الاهتمام الإعلامي والسياسي محليا ودوليا رغم انها تتنزل في خانة العمليات الإرهابية التي تحدث تقريبا بشكل يومي في مختلف أنحاء العالم ؟إن ما يميز عملية بن قردان عن غيرها من العمليات الإرهابية كونها كانت لها أهداف بعيدة المدى تهدد كيان الدولة وتؤثر بشكل كبير جدا في المحيط الإقليمي وقد تدخل المنطقة في أتون صراعات ستفتح الباب على مصراعيه للتدخل الدولي في البلاد والإقليم. ولذلك كان النصر في هذه العملية ذا بعد استراتيجي إذ حطم مؤامرة كبرى حيكت ضد البلاد وضد أمن المنطقة عموما. الأمر الثاني المهم جدا في العملية هو الأداء الأمني والعسكري الذي كان على درجة من الحرفية وأعاد الاعتبار للمؤسسة العسكرية التي تلقت ضربات موجعة في عديد الأماكن في البلاد ومنها جبل الشعانبي نتيجة غياب التجهيزات بسبب الإهمال الذي لحق هذه المؤسسة لعقود. الأمر الثالث المهم هو الأداء الرائع لمختلف تشكيلات الحرس الوطني من فرق مختصة وغيرها التي تلاحمت مع المواطنين في سابقة لم تعرفها البلاد من قبل وهو ما أثار اهتمام المتابعين الأجانب. الأمر الرابع والذي حوّل بن قردان إلى أيقونة و أمثولة في الوطنية هي تلك الهبة الشعبية المنقطعة النظير لمساندة القوات العسكرية والأمنية والتي ما كان أداؤها ليكون بهذا الشكل الرائع لولا الدفع المعنوي من مواطني المنطقة رجالا ونساء وهذا باعتراف القيادات الامنية ذاتها. لقد ساهم المواطن في بن قردان مساهمة فعالة في هذا النصر الساحق على قوى الإرهاب وفي إفشال المخطط الذي كان يستهدف البلاد. فالأهالي في بن قردان لم يخوضوا معركة الدفاع عن مدينتهم وإنما خاضوا معركة الدفاع عن تونس وهو ما جعل الواقعة حدثا وطنيا حقيقيا.
غبار المعارك والاستنتاجات العشرة:
الآن وقد انجلى غبار المعركة وخفت الحماس وعادت العقول إلى التفكير الهادئ الرصين؟ ما أهم الاستنتاجات من هذا الحدث الجلل؟
1 - إن أول استنتاج من حيث الأهمية هو: - الفشل الذريع لمخطط رهيب كان يستهدف البلاد ولو نجح لا قدّر الله لدخلت البلاد في حالة من الفوضى يعلم الله مداها.
2 - الاستنتاج الثاني والمهم هو تكسر أسطورة داعش على أرض بن قردان. فالتنظيم قد تلقى ضربة قاصمة ليس من السهل أن يتعافى منها بسهولة وقد يعيد النظر في الكثير من أهدافه واستراتيجياته.
3 - الإستنتاج الثالث والمهم هو فشل مخطط ضرب المسار الديمقراطي الذي تنتهجه البلاد بصعوبة. إذ من بين أهداف العملية ضرب هذا المسار وإفشاله وهو ما يعني تقاطع أجندات هذا التنظيم مع أهداف قوى إقليمية ودولية معادية للديمقراطية في تونس وفي كل المنطقة العربية مما دفع ببعض المحللين إلى القول أن هذا التنظيم هو أداة تستعمله هذه القوى لتحقيق أهدافها في وأد الربيع العربي.
4 - الاستنتاج الرابع هو كمّ الإحترام والتعاطف اللذين حظيت بهما تونس في مختلف بلاد العالم وهو ما سيعود بالفائدة على البلاد سواء بالدعم الإقتصادي للتجربة التونسية الوليدة أو بالدعم العسكري الذي تحتاجه البلاد وأعني بالدعم التجهيزات العسكرية التي تحتاجها القوات المسلحة التونسية.
5 – الاستنتاج الخامس الذي أثبتته الأحداث من خلال زيارة رئيس الحكومة الى بن قردان هو حالة التلاحم بين الشعب والقيادة في فترة الأزمات . فالاستقبال الحافل الذي حظي به الصيد في المدينة ليس قناعة بالأداء الحكومي بقدر ما هو تعبيرعن حالة وطنية عالية تتطلب اللحمة والتضامن بين الجميع في هذا الظرف العصيب. وكان شعار المستقبلين للصيد «بالروح بالدم نفديك يا علم» في لحظة فارقة تقشعر لها الأبدان. وكانت درسا للعديد ممن يدعون حب هذه البلاد وهم يسعون الى خرابها. كان هذا اللقاء درسا للسياسيين في ضرورة الإلتفاف حول الراية الوطنية عندما يكون الوطن مستهدفا. لم يطالب أهالي بن قردان بالتنمية ولم يبدر منهم ما يسيئ لمقام الدولة قولا أو فعلا وإنما تصرفوا بما تستوجبه اللحظة بعيدا عن الأنانية والنفعية المقيتة اللتين استفحلتا في البلاد.
6 - الاستنتاج السّادس هو سقوط متلازمة الإرهاب والتهريب. إن من أدخل السلاح ليس المهربون وإنما هم الدواعش من أبناء المدينة الذين يعرفون جيدا مسالك الصحراء ونقاط التمركز الأمني في هذه المساحة الشاسعة من الأرض المفتوحة. لقد لعب المهربون دورا مهما في الكشف عن بعض تفاصيل العملية وفي مد الأمن بمعطيات ساعدت على ملاحقة المجرمين. إن التهريب لمن لا يعرف هو ثقافة في بن قردان وممارسة لها طقوسها وشروطها وليس كل شخص مؤهلا ليكون مهربا. إن كل اختصاصات التهريب موجودة إلا تهريب السلاح فهو لم يثبته أي محضر أمني ولم يثبت من خلال اعترافات عناصر هذه المجموعة تورط أي من مهربي بن قردان في التعاون مع الدواعش .بل إن المهربين لهم علاقات استخبارية مع الأمن وهذا ليس جديدا بل هو من عهد بن علي.
7 – الاستنتاج السابع سقوط مقولة أن بن قردان حاضنة للإرهاب .هذه المقولة التي رسخت في عقول العديدين نتيجة الضخ الإعلامي ممن يسمون أنفسهم خبراء .لقد طعنت بن قردان «شرفهم الأكاديمي» وبرهنت عن زيف مقولاتهم وعن تهافتهم المعرفي (خبراء مزيفون) بل تحولت بن قردان إلى مفخرة للتونسيين في العالم. لكن هذا لا يمنعنا من القول بأن من أشرف على الجانب التنفيذي للعملية ومن قدم لها الدعم اللوجستي هم من أبناء بن قردان سواء من قدموا من الخارج مثل مفتاح مانيطة ومحمد كردي أو من الخلايا النائمة التي هيأت المنازل وأماكن الإختباء للمهاجمين ومن أرشدت القتلة للوصول إلى منازل الشهداء من الأمنيين علما أن القتلى في العملية من أبناء المدينة هم خمسة فقط والبقية من مختلف ولايات الجمهورية إلى جانب عنصر جزائري كان قد اكترى منزلا قريبا من منطقة الحرس ومكث فيه ثلاثة أشهر قبل تنفيذ العملية. والإحصائيات المحلية تقول إن عدد الدواعش سواء الذين غادروا المدينة أو من بقي فيها الى حد تنفيذ العملية لا يتجاوز المائتي عنصر من مدينة يعد سكانها مائة وعشرون ألف نسمة وهو عدد ضئيل مقارنة بعدد السكان. كما أن عددا مهما من هذه العناصر قتل في العراق وسوريا وليبيا.
8 - الاستنتاج الثامن هو ضعف العمل الأمني الإستباقي . فالظاهر أن المجموعة المهاجمة قد عملت في أريحية كبيرة طيلة المدة قبل العملية وتمكنت من السيطرة على قلب المدينة ومداخلها لفترة تتجاوز الساعة قبل أن تنطلق عملية المقاومة الفعلية من الأجهزة الأمنية والعسكرية. وهذا يطرح عديد الأسئلة حول الجاهزية الإستخبارية للمنظومة الأمنية التونسية . ولا ننسى ذلك النقابي الأمني الذي صرح في وسيلة إعلامية على الملإ وقال «إننا اخترقنا هذه المجموعات ولنا فيهم مخبرين» ومر الأمر دون أدنى مساءلة لهذا الشخص رغم خرقه واجب التحفظ في مثل هذه الأمور.
9 - الاستنتاج التاسع هو أن الحرب مع هذا التنظيم لازالت طويلة وأن من شروط النصر عليه النأي بالأجهزة الأمنية عن التجاذبات السياسية وأن يتحول الأمن التونسي إلى أمن جمهوري دوره حماية الوطن والمواطن. وأن ترتقي الطبقة السياسية بخطابها إلى مستوى يجعل منها رافعة مهمة في محاربة الإرهاب لا في المناكفات السياسية التي قزمتها في نظر المواطن .كما لا يمكن أن نحارب كل الظواهر السلبية ومنها ظاهرة الإرهاب في ظل واقع الإعلام في بلادنا . ولا أبالغ إذا قلت إن الإعلام قد ساهم مساهمة فعالة في انتشار هذه الآفة وفي مدها بالمعلومة الضرورية في الوقت الذي تريد . كما انحرف بالإهتمامات الوطنية إلى مسائل بعيدة كل البعد عن الأولويات التي يجب أن يطرحها الإعلام الجادة. إن من شروط النجاح في محاربة الإرهاب إعادة النظر بعمق في ملف الإعلام. فالدواعش ليسوا فقط في التنظيمات الإرهابية وإنما هناك أيضا دواعش الإعلام ودواعش الإقتصاد وهم لا يقلون خطرا على البلاد من دواعش السلاح.
10 – الاستنتاج العاشر والمهم هو أن بن قردان قبل 7 مارس 2016 ليست بن قردان بعد هذا التاريخ. وهذا يحيلنا إلى مجموعة من الإستحقاقات الأمنية والإقتصادية لهذه المدينة. والظاهر أن الحكومة تفطنت لهذا الأمر وبدأ العمل على هذا الصعيد.
لقد تفطن الجميع للأهمية الاستراتيجية لهذه المدينة التي يمكن أن تكون خاصرة رخوة لتنفيذ مخططات تستهدف أمن البلاد واستقرارها. فهي مدينة ساحلية تطل على البحر الابيض المتوسط بطول سواحل تتجاوز الثلاثين كيلومترا كما تنفتح على الفضاء الصحراوي من الجنوب في اتجاه ليبيا وهذا يجعل البلاد أمام استحقاق أمني كبير لتأمين حدود هذه المدينة التي هي حدود البلاد في الأخير من البر والبحر بما يعني إعادة النظرفي التجهيزات الأمنية سواء داخل المدينة أو في المراكز المتقدمة داخل حدود المعتمدية كما يجب إعادة النظر في عديد العناصر الأمنية التي تؤمن كامل المعتمدية. والملف الأمني يبقى في الأخير من اختصاص الأمنيين ولا يمكنني الخوض فيه.
وعلى المستوى الاقتصادي تبقى المدينة متفردة بعديد الخصائص التي لا نجدها في أية مدينة تونسية أخرى. فبن قردان تعتمد في نمط عيشها على التجارة الموازية وعلى التهريب وعلى «الصرف» (التعامل بالعملة ومبادلتها خارج النظم البنكية)وعلى تجارة المحروقات إلى جانب كونها مدينة فلاحية بها قرابة مليون شجرة زيتون ومرشحة في السنوات القريبة القادمة لتكون المدينة الأولى في إنتاج زيت الزيتون. أما البنية الصناعية في المدينة فتكاد تكون منعدمة إذا استثنينا بعض الوحدات المختصة في تصبير سمك التن وتعليبه ليروج في السوق الداخلية وفي الخارج. هذه الخصائص تجعل الدولة مطالبة في مرحلة أولى بأن تتعامل مع الأمر الواقع كما هو وكما كان لأكثر من عشرين سنة مضت دون أن تخضع لضغط لوبيات المال والأعمال المتضررين من التجارة الموازية التي تحافظ على القدرة الشرائية لشريحة عريضة من التونسين من بنزرت إلى بن قردان. للتوضح جلية الامر ،عدد المحلات التي تشتغل على التجارة الموازية في معتمدية بن قردان يتجاوز 4000 محل. وهناك من هذه المحلات من يؤمن عيش مجموعة من العائلات. والحل يتمثل في مرحلة أولى في تقنين التجارة الموازية وذلك عبر وضعها تحت منظومة الجباية العمومية لتدخل الدورة الإقتصادية للبلاد . كما يجب التسريع بإنجاز منطقة التبادل الحر مع الشقيقة ليبيا التي ستحل العديد من المشاكل التي تؤرق المسؤولين وتحد من ظاهرة استفحال التجارة الموازية في غياب البدائل الفعلية.
الآن تعيش بن قردان حالة من الشلل التام في ظل غلق معبر رأس جدير وتوقف جلب المحروقات من ليبيا سواء عبر المعبر أو عبر المسالك البرية . وهذا الأمر ينذر بالخطر الشديد. فرغم أن المواطنين هناك مازالوا منتشين بالانتصار الساحق على الإرهاب ومتفهمون لضرورة الدواعي الأمنية لغلق المعبر والمسالك الصحراوية فإن ذلك لا ينفي بداية الشعور بالضجر والقلق نتيجة خواء الجيوب وحالة الكساد العامة في المدينة. ولذلك أنصح السلطات بأن تسرع في فتح المعبر بعد أن تطبعت الحياة في المدينة . وهذا أراه أولوية مطلقة مع ضرورة تأمين المعبر وتجهيزه بتجهيزات حديثة تمنع دخول ما يهدد أمن البلاد من أسلحة وغيرها.
خاتمة :
إن بن قردان التي تكسرت على أرضها أسطورة داعش تستحق من تونس أن ترفع عنها معاناة السنين التي امتدت لعقود. فدولة الاستقلال همشت هذه المدينة سواء في عهد بورقيبة أو في عهد المخلوع بن علي أو في فترة الثورة. فلا يليق بدولة أن يرتبط مصير مدينة من مدنها بدولة أخرى ولو كانت جارة شقيقة. ونرجو ألّا تكون الاستفاقة الأخيرة للحكومة من خلال حزمة الوعود التي قدمها الحبيب الصيد للمدينة والمتمثلة في جملة من المشاريع الحيوية مجرد ردة فعل تتبخر مع مرور الأيام . إن بن قردان التي كانت بوابة الدفاع الأولى عن تونس يمكن أن تتحول إلى كابوس يؤرق حكومة البلاد إذا لم تتفهم طبيعة هذه المدينة وخصائصها وخاصة إذا حاولت أن تضيق عليها عيشها . وأنصح رئيس الحكومة بأن يعود إلى التاريخ القريب وبالتحديد إلى رمضان 2010 أو ما عرف في بن قردان ب«انتفاضة التراويح» التي أجبرت المخلوع بن علي على إعادة فتح المعبر عندما أراد القضاء على التجارة الموازية بإيعاز من الطرابلسية ومن أصحاب المال والأعمال. فتوقف الحياة الإقتصادية في بن قردان أثر كثيرا في عديد المدن الأخرى داخل البلاد ذلك أن بن قردان هي محج التجار من مختلف المدن داخل الجمهورية ومنها تسترزق شريحة عريضة من العائلات التونسية وهذا عامل إضافي يجعل هذه المعتمدية ملفا حارقا على مكتب رئيس الحكومة و مجلس الوزراء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.