المفروض أن الحكومة تمثل أعلى هرم السلطة وهي محور الحكم في أي دولة… وتكون مهام الحكومة أكبر وأعظم عندما يتم إقرار النظام البرلماني في دولة ما…. حيث تكون جل الصلاحيات مركزة بيد رئيس الحكومة… والحكومة في أي دولة من الدول الديمقراطية وخاصة ذات النظام البرلماني تكون مشكلة من الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية أو من طرف الائتلاف البرلماني الأكبر الذي يتشكل حول الحزب الفائز بأكثر المقاعد خلال تلك الانتخابات … وتكون تلك الحكومة المشكلة من سياسيين مسؤولة عن تنفيذ برامجها المختلفة التي وعدت بتحقيقها لفائدة المواطنين في بلادها في حالة فوزها خلال الفترة التي فازت بها… ولذلك هي تكون مسؤولة في حالة الفشل على تحقيق وعودها وتتم معاقبتها من طرف الشعب بإقصائها من الحكم بعد انقضاء فترة حكمها أو بالمطالبة بانتخابات مبكرة … وقد انبنت الحياة السياسية في المجتمعات المعاصرة و التي تبنت النظام الديمقراطي على ركيزة أساسية تتمثل في الأحزاب السياسية… فلا حياة سياسية ولا تداول سلمي على السلطة في ظل غياب الأحزاب… فالأحزاب هي الحاضنة التي تنمو داخلها الكفاءات السياسية التي تكون قادرة على التصدي للحكم والقيام بأعبائه … وهذه الأحزاب تقدم كل منها وجهة نظر معينة (برامج وتصورات ومشاريع ) في إدارة الشأن العام والنهوض بالاقتصاد وتحقيق الأفضل للوطن والشعب وتعرضها على المواطن الذي يقوم باختيار ما يراه الأفضل والأنسب له ولوطنه… وتنبني الثقة بين الناخب والمنتخب من خلال التجربة والممارسة … فكلما كان السياسي أقرب إلى الوفاء بوعوده كلما زادت ثقة الناخب فيه … وكلما اكتشف الناخب كذب وزيف وعود المنتخب إلا واهتزت ثقته في السياسي وفي السياسة بصفة عامة …مما ينجر عنه عواقب وخيمة على الوطن والمواطن والدولة… في تونس وبعد الانتقال من الوضع المؤقت ( المرحلة الانتقالي) إلى الوضع الدائم إثر اانتخابات البرلمانية والرئاسية لسنة 2014 والتي أدت إلى فوز "نداء تونس" بالأغلبية البرلمانية وبكرسي الرئاسة.. كان من المفروض أن يقوم هذا الحزب بتشكيل الحكومة من بين أعضائه وأعضاء الأحزاب المتكتلة معه في الائتلاف الحاكم… ولكن المفاجأة التي صدمت الجميع في تلك المرحلة هو تهرب النداء من الحكم وتكليفه لرجل معروف عنه أنه كفاءة إدارية ولكن تنقصه الخبرة والحنكة السياسية… بتشكيل الحكومة… ورغم أن تلك الحكومة وجدت صعوبات جمة في بدايات تشكلها إلا أنها نجحت في الأخير بالظهور إلى الوجود… ومن هنا .. ومنذ تلك اللحظة ظهرت عدم أهلية وعدم جدية الحزب الحاكم في القيام بشؤون الحكم على أحسن وجه… فالنداء الذي بني على عجل من أجل قطع الطريق على حركة النهضة ذات التوجهات الإسلامية والتي كانت تثير مخاوف العديد من القوى الإقليمية والعديد من اللوبيات ذات المصالح المختلفة في الداخل والخارج اكتشف أنه وضع كل بيضه في سلة الفوز بالانتخابات ولم يفكر فيما يلي ذلك الفوز من مسؤوليات ومشاكل وإرث كبير من الهموم مقابل طموحات وآمال وانتظارات كبيرة من الشعب… فكان الحل هو في التخلص من أعباء الحكم بتشكيل حكومة تتكون أساسا من عناصر غير متحزبة إلا في بعض المواقع التي كانت في حاجة إليها..وكانت تعتقد من خلال ذلك أنها تضرب العديد من العصافير بحجر واحد.. فمن ناحية هذه الحكومة الضعيفة ستكون أكثر ولاء من حكومة سياسية مستندة إلى أحزاب وقواعد شعبية … من ناحية أخرى سيكون من السهل فرض الإملاءات على أعضاء هذه الحكومة الذين سيكونون مدينين للحزب الذي قام بتكليفهم بتلك المناصب الهامة وسيكونون بذلك أدوات طيعة في يده…. من ناحية أخرى سيتمكن الحزب الحاكم من إلقاء اللوم على كاهل تلك الحكومة بمفردها في حالة الفشل أو في حالة غضب الشعب على أدائها بتعلة أنها لم تلتزم ببرامج الحزب الذي منحها الثقة أو في حال تمرد أعضائها وهو ما حصل بالفعل تحت قبة البرلمان بالأمس في جلسة سحب الثقة من حكومة الحبيب الصديد… ولكن هل إن إقالة حكومة الحبيب الصيد جاءت حقا ردا على فشله في القيام بالمهام التي أنيطت بعهدته أم أن السبب هو غير ذلك تماما؟؟؟ هذا هو السؤال الذي لم يطرح بالأمس تحت قبة البرلمان لا من قبل النواب ولا من قبل الصيد وحكومته… فالصيد تحدث على أن أكبر خطر يتهدد البلد هو خطر الفساد… كما تحدث عن لوبيات فساد كبيرة ومتنفذة تقف وراء ذلك الفساد وأشار إلى أنها هي التي كانت تضغط من أجل دفعه إلى الهروب ورمي المنديل وتقديم الاستقالة… وأنه فعل كل ما في وسعه من أجل تحسين الأوضاع ولكن العراقيل التي كانت توضع في طريقه وكم الفساد الذي ينخر الدولة جعل مهمته شبه مستحيلة ورغم أن الصيد لم يوضح من يقف وراء كل ذلك الفساد إلا أنه نبه التونسيين لخطورة ما ينتظرهم إن هم لم يقفوا في وجه الفساد… إذا فإقالة "الحبيب الصيد" كانت مطلب لوبيات الفساد في البلاد والتي اكتشفت أن الصيد لا يقدم الأداء المطلوب منه والذي يخدم مصالحها ولا يتعاون بالشكل المطلوب ولذلك فإنه آن الأوان للتخلص منه ولذلك تعاملت معه ولكن وللأسف الشديد ليس بشكل مباشر فقط وإنما أيضا عبر مؤسسة الرئاسة (وهو في حد ذاته أمر شديد الخطورة ومؤشر على عمق الأزمة في البلاد) وكذلك عبر العديد من المنظمات الكبيرة في البلاد وعبر العديد من وسائل الإعلام ..؟؟ تعاملت معه كأنه "أجير" تقوم بفصله بنفس البساطة التي استأجرته به… فبين عشية وضحاها تحول السبسي أكبر المنتصرين والمساندين للصيد أول المطالبين بتنحيه ..ثم بعد تصريح السبسي المفاجئ انقلب الجميع على الصيد وحكومته (حتى من قبل بعض أعضائها؟؟؟ ).. فنفس الذين كانوا يمجدونه ويمتدحونه بالأمس القريب انقلبوا ضده وقالوا فيه ما لم يقله مالك في الخمر… حتى أصبح الصيد وحكومته عنوان الفشل وسبب البلاء في البلاد؟؟؟ وكأن الصيد هو من يقف وراء العمليات الإرهابية.. أو وراء تعطل انتاج الفسفاط.. أو وراء استشراء الاحتجاجات الاجتماعية .. أو وراء خفض قيمة الدينار… الغريب أن كل المؤشرات التي تأتينا من هنا وهناك تؤكد لنا أن الحكومة القادمة لن تكون مختلفة عن سابقتها وأنها لن تكون سياسية… بل وأنها ربما تضم البعض ( قل أو كثر ) من أعضاء الحكومة السابقة ؟؟؟ هذا إضافة إلى توسعة قاعدة التوليفة الحكومية بتوسعة قاعدة الأحزاب المشاركة والتي لن تكون بسبب أحجامها الضعيفة وكثرة خلافاتها سوى معيق آخر للعمل الحكومي والذي سيعقد أكثر فأكثر قضية التوافق ويشعل معركة تقاسم النفوذ…. إذا فما حدث ليس تداركا لأخطاء الماضي وإنما هو مواصلة في نفس نهج الخطأ… مما يجعنا نتأكد بأن الأمر مقصود وأن مصلحة الوطن والبلد هي آخر هموم التوليفة الحاكمة وأن المطلوب هو تحقيق مصالح أطراف خارجية وداخلية بالدرجة الأولى ولو على حساب كل الوطن… إننا نجزم أن مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة لن تكون بتلك البساطة التي يعتقدها البعض.. وأن الوضع في البلاد قادم على مزيد من التأزم والانفلات.. خاصة والبلد قادم على استحقاقات كبيرة منها المالية ومنها السياسية (انتخابات بلدية) واستحقاقات اقتصادية واجتماعية وتنموية وبيئية وفلاحية وهيكلية وأمنية … لقد تبين بكل وضوح أن وجود قاعدة برلمانية عريضة لمساندة حكومة ما ليس بتلك الأهمية التي يعتقدها البعض إن كانت تلك الحكومة هجينة وغير سياسية … وهذا بالضبط ما حصل لحكومة الصيد فقاعدتها البرلمانية لم تشفع لها في البقاء بل كانت هي أول المنقلبين عليها… إذا المطلوب هو إنهاء حالة النشاز التي كانت تعيشها البلاد والمتمثلة في هروب الأحزاب الفائزة بالانتخابات من تحمل مسؤولياتها في الحكم وتشكيل حكومة سياسية مسؤولة أمام قواعدها وأمام الشعب عن كل ممارساتها…. أما إن تواصل العمل بنفس الأسلوب وتم تشكيل حكومة لقيطة هجينة مثل سابقتها فإنها ستكون أكبر تأكيد أنها حكومة منتدبة للقيام بمهام قذرة لتصفية ما بقي من استحقاقات الثورة والعودة بالبلد إلى المربع الأول مربع الخضوع والدكترة والرضوخ للفساد.