التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار , وفي باطنه نظر وتحقيق . كلمات قالها العلاّمة ابن خلدون واضع علم الاجتماع منذ قرون حتى لا يكون التاريخ مادّة “عدميّة” أو تجارة مُربحة يطوّعها أصحاب القرار من أهل السياسة كيفما شاؤوا تبتعد عن باطنه وتُروّج لتحقيق غايات هي أبعد ما تكون عن نظر وتحقيق المؤرّخين وتفسير الظاهرة التاريخية في سياقها الطبيعي الزمني والإنساني ومن يسعون اليوم في خضمّ أمواج البحر المتلاطم الذي يعيش على وقْعه المشهد السياسي في تونس إلى قراءة التاريخ الحديث على مقاس نظرة السياسي بدل المؤرّخ , إنما هم بصدد إعادة إنتاج ما اصطلح على تسميته “التاريخ يكتبه المنتصرون” وسيكتشفون أنّ ما كانوا يُعيبونه على أسلافهم السياسيين هم ورثتُهم بامتياز , ولم يخرجوا بالتالي عن القاعدة القائلة : وحْدها الأمم التي لا تُجيد قراءة تاريخها والاعتبار منه تُوصف بالمتخلّفة وحتّى لا أغرق في الكتابة عن نظريات التاريخ والتأريخ , أقول إنّ من يدعون ويكتبون وينظّرون اليوم لإقصاء “التجمعيين” إذا كان فهمهم للعبارة يعني العائلة الدستورية برمّتها , من الحياة السياسية , لم يخرجوا في الحقيقة عن منطق الشيْطنة السياسية للخصوم بدل المحاسبة على الأفعال والتي تأخّروا هم أنفسهم إلى اليوم عن سنّ العدالة التي تتناولها كما حدث في كلّ البلدان التي شهدت ثورات وتغييرات كبيرة على بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقائمة على قاعدة المساءلة والمحاسبة والمصالحة وهي التي تُسمّى العدالة الانتقالية فالتاريخ شاء من شاء وأبى من أبى سيذكر الدستوريين في معركة تحرير تونس من الاستعمار الفرنسي وبناء أركان الدولة الحديثة , والرّهان على التعليم والصحة , وتحرير المرأة , والنهوض بمستوى عيش التونسيين , والنمط المجتمعي الوسطي المعتدل الفاعل والمتفاعل مع محيطه الخارجي وغيرها من مظاهر الحياة التي لا تخلو مع ذلك من نقائص وشوائب تسبّبت في عديد الهزّات وسيذكُر التاريخ رغم أنف الجاحدين صورة الزّعيم الحبيب بورقيبة أوّل رئيس للجمهورية في أكثر من محفل دولي ومع أكثر من زعيم دولة عملاقة وهو يتكلّم ويُبلغ صورة ومواقف دولة صغيرة في مساحتها وثرواتها الطبيعية , كبيرة بقِيَم وذكاء أبنائها وبناتها التي كان يسمّيها رحمه الله “المادّة الشخمة” . بل لم يتوان بورقيبة وهو في خريف العمر عن تهديد الولاياتالمتحدة بقطع العلاقات الدبلوماسية معها إن هي استعملت حقّ الفيتو ضد قرار في مجلس الأمن يُدين عدوان الكيان الصهيوني الغادر على حمّام الشط في أكتوبر 1985 وما خلّفه من شهداء تونسيين وفلسطينيين . وفعلا كان له ما أراد وامتنعت حكومة رونالد ريغن عن التصويت وصادق المجلس على قرار تاريخي بالمعنى السياسي والدبلوماسي في تاريخ الصراع العربي الصهيوني أما من يتحدّثون عن التجمع بالمعنى “النوفمبري” , فأقول إن التجمع لم يكن أبدا وريثا للحركة الدستورية بل إن الغالبية العظمى من الدستوريين هم أوّل المتضرّرين منه ولم ينخرط فيه إلاّ قلّة قليلة سرعان ما انسحب أكثرها التجمع كان واجهةً لحكم فردي كلْياني , لعب على كل المفردات السياسية الجميلة كالديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات وغيرها من الوصْفات السريالية التي لا يمكن أن يتّسع لفهمها فكرُ من كان مستواه التعليمي الثالثة ثانوي إنْ صدق , ووصل إلى سدّة الحكم كما قال الشاعر أولاد أحمد : أقبل الجيش علينا ببيان مدني قد غُدرْنا بنبيّ وغُدرْنا بنبيّ أيها المبعوث فينا وقْعُ أقدامك يا سيدي عسكري التجمع كان علْبة فساد , أعواد كبريتها من عائلة وانتهازيين ومقرّبين , تشكّلُ الدائرة الأولى لعُرّابه الأول , وانتفع بشظاياها بعض “مناضلي” الصّف الثاني , وهو بعد حلّه ومصادرة أملاكه لا يُمكن أن يعود , لأن أسباب وجوده انتفت تماما مع غياب رمزه اللاّجئ في السعودية لذلك لا يخرج كلام دعاة الاستئصال والاجتثاث الأعمى عن منطق الصراع السياسي بين المؤثثين للمشهد السياسي مع ما يحمل ذلك من أخطار اللّجوء إلى القوة والعنف وسيلة لتصفية المنافسين وفرض قواعد اللّعبة السياسية بشروط وحدود طرف مُعيّن دون آخر وهو مسعى إن أصرّ أصحابه عليه سيجرّ البلاد إلى المجهول ويعصف بحُلم شعب بأكمله رأى في ثورته أملا تولّد في النفوس للقطع مع الدكتاتورية والرأي الواحد والزعيم الأوْحد والتنافس الديمقراطي في كل هذا يبقى هو البديل الشرعي للصراع السياسي ، وهو ما حاولت العملية السياسية قبل انتخابات التأسيسي ترسيخه كمنهج عمل سياسي يتيح للتونسيين التداول السلمي للسلطة وبناء مؤسسات الدولة المدنية. فهل تبدو الساحة السياسية التونسية كما أريد لها أن تكون، فضاء ديمقراطيا قائما على التنافس السلمي بين الأحزاب والكتل السياسية، لتبادل مواقع السلطة من خلال أصوات أبناء الشعب صاحب السلطة الحقيقية والشرعية الدائمة ؟ في الختام أودُّ أن أتوجه للذي تُلهيه هويّتي السياسة قبل فكري لأقولَ له تعاملْ مع أفكاري ولا تكثر السؤال عن انتمائي . ومع ذلك وإرضاءً لفضوله أقول له إذا كانت عقدة الانتماء لديك بمنطق الفوقي “المنتصر” التجمعي بالأمس والإخواني اليوم , ومع أن الذين يعرفونني بصدق يشهدون أنّني لم ولن أتحزّب يوما , فلا مانع لديّ من أن يمنحني “الكاسِبُون” الجدد صفة التجمعي : فهذا شرف لا أدّعيه وتهمة لا أنكرها , ولا تُرهبُني الكلمات التي تُسوّقُ اليوم مُرادفا لإبليس اللّعين , لأنّني ببساطة لا أختلف مع هذا التجمعي في الجوهر , وهو مدنيّة الدولة وقِيم الجمهورية والنمط المجتمعي الوسطي المعتدل المحافظ على هويته والمنفتح على الآخر , والقيم الكونية , وهو ما يتبنّاه أكثر من حزب ديمقراطي في تونس بعد الثورة بينهم “نداء تونس” و”الجمهوري” لإيمانٍ شخصي بألاّ مجال لأحزاب سياسية حقيقية وجدّية وقادرة على قيادة دولة مدنية حديثة متوازنة وقابلة للتقدم إلاّ إذا توقّفت عن المتاجرة بشيئين الإسلام والعروبة . وكل من يرفع هذه الشعارات في الواجهة مفلس وجبان لأنه يخشى أن يواجه الواقع مواجهة علمية واقعية فيلتجأ إلى مشاعر الناس لخداعهم وإيهامهم بالخطر المُحدق بمعتقداتهم وهوّيتهم …