بلغت ظاهرة الفساد الإداري والمالي ذروتها خلال السنوات الأخيرة، حيث أصبح بإمكان عصابات الفساد داخل الادارة تمرير نصوص تشريعية وترتيبية لخدمة مهنة يباشرها أو يعتزم مباشرتها احد أقاربهم أو شركاؤهم أو مجموعة من المناشدين والموالين أو أولياء نعمتهم ولا يجد هؤلاء الفاسدون حرجا في تقديم التبريرات التي لا تقنع إلا امثالهم معولين في ذلك على الشلل الذي أصاب مؤسسات الدولة التي تحولت إلى مراكز للارتزاق والفساد لا غير. ولإسكات أصوات الواقفين في وجه النصوص الاجرامية الفاسدة التي يتم من خلالها نهب المؤسسات وتخريب قدراتها التنافسية والاعتداء على حق التقاضي يختبأ الفاسدون سابقا وراء التبرير الذي مفاده أن المسالة تتعلق بتجسيم قرار رئاسي. في خضم طوفان الفساد الذي أتى على الأخضر واليابس لم يسلم التشريع الجبائي حيث أصبح وسيلة ناجعة وفعالة في مجال تكريس المنافسة غير الشريفة من خلال اغتصاب مجال تدخل المستشارين الجبائيين ونهب وابتزاز المؤسسات المواطنة واستيراد البطالة وتبييض الجرائم الجبائية وهدر المال العام من خلال الامتيازات التي لا زلنا نجهل مردوديتها وغير ذلك من مظاهر الفساد التي حبست المبادرة الاقتصادية وحالت دون نمو المؤسسات وتطورها وحتى استمراريتها وساهمت بالتالي في استفحال البطالة والفقر والتخلف. فعلى سبيل المثال لم يخول الفصل 48 سابعا طرح الخسائر الناتجة عن عمليات التخلي عن الديون لفائدة المؤسسات التي تمر بصعوبات على معنى القانون عدد 34 لسنة 1995 إلا إذا كانت المؤسسة المتخلية والمؤسسة المنتفعة بالتخلي خاضعتين قانونا لتدقيق مراقب حسابات وان تكون قد تم التصديق على حساباتهما بعنوان السنوات التي لم يشملها التقادم دون أن يتضمن التصديق احترازات من قبل مراقب الحسابات لها تأثير على أساس الأداء. فبمقتضى هذه الأحكام الفاسدة الخارقة للفصول 10 و15 و21 من الدستور تجد المؤسسة غير الملزمة بتعيين مراقب حسابات نفسها معاقبة مرتين الأولى عندما تجبر على التخلي عن جزء من دينها في إطار إجراءات قضائية والثانية عندما تعامل بطريقة تمييزية تلزمها بدفع الضريبة بعنوان الخسارة التي تكبدتها خارج إرادتها. كما أن الفصل 15 من مجلة الأداء على القيمة المضافة متعلق باسترجاع فائض الأداء على القيمة المضافة يعطينا فكرة واضحة عن كيفية الدوس على المبادئ الجبائية والدستورية وبالأخص مبدأي المساواة والحياد طالما أن التشريع الجبائي تحول في ظل الفساد الإداري الذي لا زال مستشريا إلى ضيعة خاصة. فأحكامه التمييزية الخارقة للفصول 10 و15 و21 من الدستور قسمت المطالبين بالضريبة إلى أربعة أصناف. الأول يمكنه استرجاع الفائض في اجل سبعة أيام والثاني في اجل 30 يوما وذلك قبل المراجعة المعمقة. أما الصنف الثالث فيمكنه الحصول على تسبقة بعنوان الفائض قبل المراجعة بما قدره 50 % شريطة أن تتم المصادقة على حساباته دون أن تتضمن احترازات من شانها المساس بالأداء على ان يسترجع بقية المبلغ في اجل 60 يوما، والصنف الرابع يمكنه الحصول على تلك التسبقة بما قدره 15 % على ان يسترجع البقية في اجل 120 يوما. بغض النظر عن الآجال المتعلقة بالاسترجاع غير المحترمة في اغلب الأحيان والصعوبات الجمة التي تواجهها المؤسسة، كرست صياغة هذا الفصل التي تضمنت لخبطة كبيرة حالة من التمييز لا مبرر لها طالما أن شروط استرجاع فائض الأداء وجب أن تكون موحدة بغض النظر عن مصدره وعن وضعية المؤسسة تجاه مراقبة الحسابات. كما ان الفصل 49 عاشرا من مجلة الضريبة على الدخل والضريبة على الشركات وكذلك الفصل 23 من مجلة التسجيل والطابع الجبائي اشترطا الانتفاع بالامتياز المتعلق بدمج الشركات بضرورة المصادقة على حسابات الشركات المدمجة من قبل مراقب حسابات. لا ننسى أيضا الشروط التمييزية وغير الدستورية التي تضمنها الفصل 5 من قانون المالية التكميلي عدد 40 لسنة 2009 بخصوص إعفاء صنف من المؤسسات التي تواجه صعوبات من دفع الأقساط الاحتياطية وبالأخص تلك المتعلقة بالنشاط في إطار مجلة التشجيع على الاستثمارات دون سواها من المؤسسات المتضررة في إطار الأزمة المالية العالمية وتقديم مطلب في الغرض مؤشر عليه من قبل مراقب حسابات و المصادقة على حسابات 2008 التي تم اعتمادها لضبط نسبة تقلص رقم معاملات 2009. فالمدافعون عن تلك المقتضيات التمييزية الفاسدة يبررون ذلك بضمان مراقب الحسابات لسلامة الوضعية الجبائية للمؤسسة والحال أن التدقيق المالي يعتمد حسب المعايير الدولية تقنية السبر والعينات وأن ضمان صحة الوضعية الجبائية يستلزم القيام بتدقيق جبائي شامل وهذه المهمة ترجع قانونا بالنظر لمستشار جبائي. الغريب في الأمر أن تتواصل نفس المهزلة من خلال الفصل 9 من المرسوم عدد 28 لسنة 2011 متعلق باجراءات جبائية ومالية لمساندة الاقتصاد الوطني التي كرست تمييزا مقيتا من خلال تمكين الأشخاص المعنويين المصادق على محاسبتهم دون احتراز له مساس باساس الاداء دون سواهم من استرجاع 50 او 100 بالمائة حسب الحالة من فائض الضريبة على الشركات في اجل 30 يوما وقبل اجراء مراجعة جبائية معمقة. هذا يثبت مرة اخرى ان دار لقمان لا زالت على حالها. الأتعس من كل ذلك ان يتضمن الفصل 18 من قانون المالية لسنة 2012 احكاما تمييزية فاسدة وغير دستورية، لا تختلف عن تلك المشار إليها أعلاه والتي لا نجد لها مثيلا بالتشاريع الاجنبية، تنص على منح تسبقة بعنوان الضريبة على الشركات المصادق على حساباتها بدون تحفظ وذلك بما قدره 35 % و 15 % في الحالات الاخرى، علما ان البعض من المؤسسات التي تحصلت على تلك التسبقة لم تجد لها ادارة الجباية اثرا عندما قررت اخضاعها لمراقبة جبائية معمقة. فالواضح ان الشبكة العنكبوتية الفاسدة المكلفة بصياغة النصوص لا زالت تفعل فعلها وما على الحكومة القادمة ومجلس النواب الا ان يبادرا بتفكيكها وتحديد الاطراف التي تعمل لفائدتها سواء من بين المنظمات المناشدة او الضالعة في الفساد. كيف يمكن لشبكة صاغت الفصل 40 من القانون عدد 69 لسنة 2007 متعلق بالفضاءات المينائية المتعلقة بسياحة العبور على مقاس عصابة بن علي واحكاما اخرى لفائدة الاقارب والمناشدين واولياء النعمة حتى يملؤوا جيوبهم على حساب المؤسسات ان يؤتمن جانبها. فعوض ان تنكب على مراجعة الية الخصم من المورد التي شلت مصالح المراقبة الجبائية من خلال اغراقها في مطالب استرجاع اداء لا قبل لها بها، نراها مصرة على سن احكام فاسدة خدمة للاقارب والاحباب والمناشدين وناهبي ومبتزي المؤسسات ومغتصبي مهام المستشار الجبائي في خرق صارخ للفصول 10 و15 و21 و40 من الدستور، علما ان تلك الاطراف توجد في وضعية تضارب مصالح. الاخطر من كل ذلك ان يتواصل اغتصاب مجال تدخل المستشار الجبائي بطرق ملتوية وفاسدة من خلال الفصل 15 من مشروع قانون المالية لسنة 2015 الذي نص على ارجاع كامل فائض الاداء دون مراجعة لصنف من المؤسسات شريطة إرفاق مطلب استرجاع فائض الأداء على القيمة المضافة بتقرير خاص من مراقب الحسابات. هذه الاحكام الفاسدة والخارقة لافصول 10 و15 و21 و40 من الدستور، التي تم التخطيط لها من قبل اطراف في وضعية تضارب مصالح صارخ فيها خرق للقوانين المهنية التي لا تسمح لمراقبي الحسابات بالقيام بتدقيق جبائي ونهب وابتزاز للمؤسسة التي حولوها الى بقرة حلوب وتكريس لمنافسة غير شرعية وحالة من التمييز. فعوض المبادرة بالقضاء على سبب تكون فوائض الاداء مثلما اوصت بذلك تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الاروبي والتي شلت مصالح المراقبة الجبائية وخربت موارد الخزينة العامة والقدرات التنافسية للمؤسسات وحصنت المتهربين من دفع الضريبة وكذلك حذف الاحكام المافيوزية وغير الدستورية، تم التخطيط في ظل الانفلات والجهل لسن احكام فاسدة، علما ان المحكمة الادارية اكدت من خلال قرارها التعقيبي عدد 35770 المؤرخ في 19 جوان 2006 في المادة الجبائية ان مصادقة مراقب الحسابات لا تضمن صحة المحاسبة وبالتالي صحة فائض الاداء. كان من المفروض فتح تحقيق جنائي بخصوص الاحكام المافيوزية التي سنت في ظروف فاسدة خاصة اذا علمنا ان بعض المتحيلين تبخروا بعد ان تحصلوا على تسبقة بعنوان فائض ضريبة. فلا احد بامكانه ان ينكر ان بعض الاحكام المافيوية الفاسدة المضمنة بالتشريع الجبائي او الفصول 13 وما بعد من مجلة الشركات التجارية تم تمريرها في اطار لجنة البرنامج الجبائي المستقبلي لبن علي صاب التجمع التي كان من بين اعضائها محاسب اشتهر بانتحاله لصفة المحامي والمستشار الجبائي وكذلك خبير محاسب، عضو باللجنة الاستشارية التي شطبت الديون الجبائية خارج اطار القانون وهي جناية لم يتم التحقيق فيها الى حد الان، اشتهر ايضا بنتحاله لصفة المحامي والمستشار الجبائي. إن تكريس التمييز وخرق مبدأي المساواة والحياد اللذان وجب أن يتصف بهما التشريع الجبائي داخل البلدان المتطورة، من خلال اشتراط الانتفاع بحق بمراقبة حسابات المؤسسة وغير ذلك من الشروط الفاسدة بمقتضى نصوص اجرامية وغير دستورية لا نجد لها مثيلا بتشاريع البلدان المتطورة التي لا تسمح مجالسها الدستورية بتمرير مثل تلك الأحكام التمييزية، يعد من اخطر مظاهر الفساد الإداري الذي أشارت إليه اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد التي صادقنا عليها بمقتضى القانون عدد 16 لسنة 2008 والتي لا زال البعض يصر على عدم احترامها من خلال عدم ملاءمة تشريعنا مع أحكامها وتفعيل القانون الجزائي وهياكل مكافحة الفساد حتى لا يشعر الفاسدون بالحصانة مثلما هو الشأن اليوم. . الأسعد الذوادي عضو الجمعية العالمية للجباية ومعهد المحامين المستشارين الجبائيين بفرنسا والمجلس الوطني للجباية والمجمع المهني للمستشارين الجبائيين ومؤسس الغرفة الوطنية للمستشارين الجبائيين