ثورة الاتصالات التي يتسارع تكشّفها فصولا متتالية مع كل ابتكار جديد في حقل التكنولوجيا ألمتطورة لا تُحدِث تغيّرات في تفاصيل حياتنا اليومية المعاصرة فحسب وإنما في كيفية عمل وسائل الإعلام المختلفة. فوسائل الإعلام التقليدية، من صحافة وإذاعة وتلفزيون، تجد نفسها في مواجهة منافسة تزداد احتداما باطراد مع حشد متكاثر من الأجهزة التي تجتذب المتلقي، بحيث إنها تستل جزءا من وقته وانتباهه واهتماماته. وآثار النقلة النوعية في تكنولوجيا المعلومات على وسائل الإعلام كانت من المسائل الرئيسية التي تناولها قوى المجتمع المدني والمهتمين بالشأن الاعلامي في تونس وفي مجمل انحاء العالم حيث استعرض المؤتمرون على مدار المؤتمرات وحلقات النقاش وضع المؤسسات الإذاعية العالمية وكيفية تكيفها مع توسع آفاق تكنولوجيا المعلومات واستخداماتها والخطر الذي يهدد بزوال الاذاعات في هذا الحضور الرهيب لتقنيات الاتصال والتواصل . وفي رجع صدى للمقولة القائلة بزوال الراديو، والتي شاعت على وجه الخصوص في الولاياتالمتحدة مع ظهور وانتشار التلفزيون في الخمسينيات من القرن ألفائت يساور بعض العاملين في مجال البث الإذاعي القلق على مصير الراديو كأداة اتصال جماهيري. هذا القلق عبر عنه الكثير من الناشطين في مجال الاعلام المسموع “بالدرجة الأولى كيف يمكن للإذاعة أن تبقى على قيد الحياة؟ هذا هو السؤال المطروح في ضوء الأدوات الترفيهية، والإعلامية والإخبارية الأخرى من قبيل التلفزيون، والإنترنت، والآي بود وما إلى ذلك”. اما الان وفي تونس تحديدا يعيش الوضع الاذاعي جدل التواجد والاستقلالية وتطوير المادة الاذاعية المسموعة والارتقاء بها الى مسار الانتقال الديمقراطي وهي لحظة ‘ التجلي ‘ القيمية والثقافية والفنية والإعلامية التي تحدث في تونس ونعتقد ان الاعلام الاذاعي الوطني رغم محافظته على ثوابته اكثر من التلفزيون والصحافة المكتوبة الا انه بات يحتاج فعلا الى اعادة نظر والى تطهير وغربلة وتصفية ماضي عالق بالذاكرة وانتماء للعهد البائد مع وجوب التفكير بحزم وجدية للمحافظة على القه واستمراره . اليوم هناك صراع القيم والمبادئ والإعلام يشبه الواقع بجدله الفني والسياسي ودخل معركة المنافسة والتراشق وظل الاعلام الاذاعي يعتقد انه لا يتسع الى الجميع واكتفى بتواجد من اعتبر نفسه مضطهد في الوقت الغابر ولم تتاح له فرصة الابداع وكان مقصى ليعود بعد هذا الغياب دون ان يطور في ذاته ودون الاعتبار للشكل المؤسساتي الوطني الذي ينتمي اليه ويشغل فيه وهو ملك وفضاء للجميع وباب مفتوح للتجارب الاعلامية ومجال للطاقات الشابة خارج حدود المؤسسة وحق مشترك عبر المساهمة العامة في الميزانية وبحكم انتماء الاذاعات الى الوطن فهي حق ان يجد فيها المستمع نفسه وأخباره وواقعه وهي فضاء عام ليعبر ويبدع . الاذاعات الوطنية يجب ان تكون مبدعة على الهواء هي مساح النغمة والموسيقى وهي محطات للهدوء والاستمتاع بالصوت الراقي والكلمة المعبرة الحلوة ‘ كما تشكل محطة للانتقاد الغير ألاذع لكنه يضع الاصبع على الجرح ويدل على مواطن الخطأ ويعلي الصوت كما يسلط الضوء على الانشطة الثقافية الطريفة ولا يمكنها تغييب المواهب الشابة وتمنعها من البروز وتحقيق احلامها فالإعلام الاذاعي الوطني اليوم يحتاج الى مراجعة داخل المؤسسات عبر تطهيره من الازلام وتقليص نرجسية البعض واحتكارهم للمصدح والثرثرة والارتجال وتمرير الانتماءات وعدم الالتزام بالحياد مع التكوين المستمر والارتقاء بالمستويات والتخصص . وهكذا فإن المشهد القادم لوسائل الإعلام الإذاعي الوطني ، وكما كان دوما، هو مشهد متقلب. وبقاء وسائل الإعلام هذه على قيد الحياة في خضم هذا البحر المتلاطم من المتغيرات سيكون مرهونا بمدى قدرتها على التكيف مع آخر مبتكرات التكنولوجيا والإتيان بوسائل جديدة تمكنها من الحفاظ على التفاف الجمهور من حوله . وثمة تغييرات جوهرية تفرضها طبيعة التغيرات الحاصلة على المشهد ألإعلامي حيث إن احتياجات ومتطلبات الجمهور متغيرة ما يحتم تغييرا في طبيعة المادة التي تقدمها الإذاعات. إن على الإذاعات أن “تحاول أن تواكب ما يريده المستمع. المستمع طلوب دائما. فأظن أن المحتوى يجب أن يتغير، يعني يجب أن لا يبقى جامدا”. “فمثلا، في إحدى المراحل في الماضي، الأخبار كانت هي الشيء المهم بالنسبة للجميع. الآن أنت تتحدث إلى جيل معظمه شاب من خلال الإذاعة. فيجب أن تخفف شيئا ما من محتوى مادتك بحيث لا تكون تافهة ولكن تكون مسلية، مُرَفِّهَة، ومفيدة في الوقت ذاته”. وندعوا إلى نقلة نوعية في بنية الإعلام الاذاعي التونسي بحيث يجري التخفيف من سيطرة أشكال الملكية الحكومية عليه وفتح مجال أوسع أمام القطاع الخاص. فالإعلام الاذاعي الوطني في تونس يحتاج الى غربلة ونظرة في المرآة ليكتشف عيوبه ويعلم انه في مؤسسة ملك للجميع ولا مجال فيها للسيطرة واحتكار المباشر وتمرير الايديولوجيات السياسة والعمل لأجندة معينة واستعراض العضلات والثرثرة والنرجسية انه فضاء للجميع سوى للاستماع والاستمتاع او للتعبير والإبداع والتواجد بدون حسابات . هناك سمتين أساسيتين تمتاز بهما الإذاعة على الأجهزة الجديدة، “والإذاعة تتميز بسمتين: الإذاعة تعطيك الخبر عندما يقع أي شيء، الآي بود لا يعطيك الخبر؛ الإذاعة تأتيك بالمفاجأة عندما تستمع إلى الأغاني، الآي بود لا يعطيك المفاجأة، فأنت تكون قد سجلت ما هو في الآي بود وتعرف ماذا تسمع”. إعلام تفاعلي والإرتقاء إلى البث الرقمي يفسح المجال أمام الإذاعات لكي تبحر في الآفاق التفاعلية التي تتيحها التكنولوجيا الرقمية أمام الجمهور والذي يتحول بدوره إلى مشارك في عملية الانتاج الإذاعي. “وهناك التفاعلية بمعنى أن الإذاعة مفتوحة لأطول وقت للمستمع. وهذا ما نسميه نحن مثلا في إذاعة المستمعين المنشطين”. اذاعة البث والتقبل يصبح فيها الباث متقبل والمتقبل فاعل ومتفاعل مع الباث ...