عندما تلاحظ الطريقة التي يتفاعل بها جانب معتبر من الرأي العام مع بعض المسائل الصغيرة، والانقسام الذي يحدث داخل هذا الرأي العام حول مسائل لا تستحق منا في الأصل إلا التفاتة غير مبالية، تفهم جيدا أن موضوع صناعة الرأي العام ليس من المواضيع الهزلية التي يمكن القاؤها في سلة فكر المؤامرة. لا يعني ذلك بالضرورة أن قبلة العروسين قد خطط لها في مكتب مغلق، ولكنه يعني أن الرأي العام يساهم بدوره في صناعة نفسه والتشويش على توجهاته الأصلية. هناك عمل كبير يجب القيام به في هذا الخصوص، تذكير التونسيين أن قضيتهم الأولى والوحيدة لا علاقة لها بخصوصيات البشر، وأن تغليف كل اختلاف في الآراء، في المسائل الثانوية والأساسية بغلاف الدين والعادات والتقاليد لا يمكن إلا أن يبعدنا عن الالتقاء حول القضية الأساسية. قضيتنا الأساسية هي الفقر، ذلك الفقر نفسه الذي يجعل من كل المجالات تتداخل فيما بينها من أجل استغلاله واستخدام انعكاساته في التأثير على مستقبل الناس. الفقر يفسح المجال للفساد، وكذلك للارهاب، واجتماع الفسادين، أو الارهابين، هو الذي يوفر التربة الخصبة للاستبداد. يمكن لك أن تنظم الانتخابات كما تريد، وأن يشهد لك العالم بأنها شفافة ونظيفة، ولكن صندوق الاقتراع يصبح في المحصلة مجرد جبة جميلة التطريز للاستبداد، وأداة ناجعة ليحكم الفاسدون دون تأنيب ضمير. السماء زرقاء والعصافير تزقزق، ولكن تحت الأرض، ووراء سمائنا، تتحضر براكين للانفجار وتتهيأ عواصف ستحرقنا جميعا أو سترمي بنا جميعا وراء السماء الزرقاء وحيث لا نسمع زقزقات العصافير. الفساد والاستبداد والإرهاب، هذا الثلاثي الخبيث الذي يقتات من الفقر ويجعله قدرا لسواد الناس، هو العدو الحقيقي لنا الذي لا يجب أن تشغلنا عن مقارعته معارك بلا معنى. في تحالفهما الحالي، يسلك الحزبان الرئيسيان سلوكا يظهر غير ما يبطن: كلاهما يسيء النية، ومن السذاجة اعتبار أن أحدهما قد أعلن خضوعه للآخر. في خضم تحالف غير بريء، يلقي كل منهما للآخر، بين الفينة والأخرى، بعض الطعم. ما يثير "الاعجاب" حقيقة هو أن لا أحد يبلع الطعم كليا، حيث تكون النتيجة أن من يشاهدون هذه المعركة الودية هم الذين يبلعون الطعم حد الاختناق. عندما يقرر أحدهما أن يفتح من جديد موضوع الحجاب، فإن الرأي العام أو جزءا منه يستدعى لمعركة قديمة لا فائدة منها، جربناها وسقطنا بسببها في الكره والضغينة لبعضنا البعض لعقود من الزمن. تستدعى معارك الهوية من جديد، وما أدماها من معارك. في تحالفهما ضد الفقراء وضد الديمقراطية الاجتماعية، يوزع اللاعبان الكرات في وسط الميدان، ولكن لا أحد منهما مجبر على تسجيل أهداف حقيقية. يغض كل من الطرفين النظر عن الأهداف البيضاء، لأنها لا تحتسب، ويتركان الجمهور الكريم يناقش التسلل، ولمسة اليد. لا نعرف أن للفقر هوية غير هويته الاجتماعية، فهو لا يفرق بين محجبة وغيرها. كما أن الاستبداد العائد تحت غطاء الطوارئ والهيبة المزعومة، لن تفضل هراواته ظهورا على ظهور أخرى. كذلك رصاص الإرهاب وغباؤه، فهو يوزع ضحاياه بالتساوي على الجميع. يكفي أن يدقق المرء النظر في المنعرجات الهامة التي طرحت فيها الأسئلة الحقيقية حتى يرى بأم عينيه كيف يقع استهداف أية تحركات من طرف مثلث الفساد والاستبداد والإرهاب. "وينو البترول"، بالرغم من أنها حملة مواطنية سلمية وراقية، لم تنج من كل التهم التي جهزت لها ولغيرها، حتى أن فخامة رئيس الجمهورية ألقى عليها بمسؤولية هجوم شاطئ سوسة وضحاياه الأربعون. عندما تنظر إلى كل القمع الذي تواجه به التحركات السلمية الراقية واحترام منظميها ومشاركيها للقانون، وترى كل ذلك العنف الذي تمارسه السلطة تجاهها وتجاههم، ينجلي أمامك واقع قديم جديد، وهو أن السلطة الجديدة، مثلما كان الأمر في عهد بن علي، لا تشعر أنها معنية بتطبيق القوانين واحترامها، وأن حجم العنف المخزون لديها يكفي التونسيين جميعا لو أرادت. بعضهم يترك هذا الجانب من الموضوع ويتساءل عن مغزى دعوشة الشباب التونسي… داعش ليست فقط لحية وتقصير ثوب… عندما تنظر إلى مسيرة الحليفين اللدودين، لا يمكنك إلا أن تعجب بكل الخطوط التي رسمها كل منها للآخر في وسط الميدان، وكيف أنهما يحترمانها بحرص شديد. اللعبة تفترض احترام هذه الخطوط، وإن كانت لا تمنع التفكير في خطط بديلة إذا ما تبين أن أحدا اقترب من الخطوط أكثر مما ينبغي. في دعايته يعتمد أحد الحزبين التخويف من الاستئصال، ولكن الاستئصال الاجتماعي لثلاثة أرباع التونسيين لا يبدو مبررا كافيا للتفكير بطريقة مختلفة. نرفض معارك الهوية لأنها معارك خاطئة، ولأن معركة الحرية أكبر منها وأجدى. في المعركة من أجل الحرية ومن أجل العدالة الاجتماعية، يرى المرء الساحة بعيون أخرى، ويكتشف أن الملعب الذي أمامه ليس إلا شاشة مسطحة تختفي وراءها حقائق أكبر من الخطوط الوهمية ومن الأهداف البيضاء. لا نثق في الدولة حقيقة، لأن الدولة ليست، في سياقنا التونسي، تقاليد مساواة راسخة أمام القانون وضامنا لاحترام الدستور. في تجارب الشعوب، لمن يريد أن ينسى، كانت الشعوب هي الأكثر احتراما للقوانين وللدستور من الدولة…. اليوم تحولت الدولة عندنا مجددا إلى نقابة لزعماء العصابات، يقسمون الايراد فيما بينهم، دون أن يبقوا منه للفقراء حتى الفتات المعتاد. هذا مغزى ما يسمى بقانون المصالحة، والذي سيكون مسك الختام في رزمة القوانين الكبرى التي شرعت في نقل تونس مجددا إلى عهد ما قبل الكرامة. هل تعرف الأحزاب التي صوتت وستصوت أية كارثة تهيء لها تلك القوانين؟ وأي معنى لخيانة الناخبين؟ كفر بالديمقراطية وبقواعد لعبة مملة. عندما تواجه الحكومة العتيدة الشباب الوطني والمتحضر بالهراوات، والاعتقال والاهانات، وقد جاؤوا إلى شارع عاصمتهم ببعض اللافتات وبكل وطنيتهم وايمانهم بالديمقراطية والقوانين، فإن الرسالة واحدة لا غبار عليها: اذهبوا لداعش. أيتها الحكومة العتيدة، قلنا أنك الممول السياسي الرئيسي لداعش، ولكن ها أنك تقولينه بنفسك في الشارع وأمام كل الناس. هل تدرين ما أنت في نظر الناس اليوم: هراوة تحمي اللصوص والمفسدين…