كان حديث الأستاذة بشرى بلحاج حميدة يوم الاثنين 17 أوت الجاري لإذاعة موزاييك ويوم الثلاثاء 18 أوت لإذاعة شمس اف.ام لافتا للانتباه و مثيرا للجدل لأسباب عديدة لعل أهمها أنّ رئيسة لجنة الحقوق والحريات بمجلس نواب الشعب والقيادية بحركة نداء تونس قد اقتحمت – بقدر ما استطاعت – مناطق حساسة كان من المفروض أن تتريث قبل دخولها ويتعلق الأمر بضمانات المحاكمة العادلة والممارسات الأمنية في قضايا الارهاب وادعاءات التعذيب وعلاقة الأمن بالقضاء وعمل قضاة التحقيق..الخ خصوصا و قد اتضح أن طرح هذه المسائل كان في علاقة مباشرة بإحدى قضايا الرأي العام التى عرفت في التداول الاعلامي بقضية "الموقوفين السبعة " أو"أعضاء خلية القيروان" إضافة الى أنّ الاستاذة قد اختارت الجواب عن عدد من الاسئلة المتعلقة بتلك المسائل بطريقة تبدو"انطباعية"ومتسرعة احيانا ودون اعتبار ارتباطها بقضايا جارية لدى مكاتب التحقيق. ويذكر أنّ رئيسة لجنة الحقوق والحريات قد تحدثت استنادا الى صفة اضافية وهي ترؤّسها للجنة تحقيق برلمانية تم تكوينها في 5 أوت الجاري للبحث فيما نسب لبعض الجهات الامنية من ممارسة التعذيب على عدد من الموقوفين في القضية التحقيقية المذكورة. ويبدو مستغربا أنّ لجنة التحقيق المعنيّة قد سبق الإعلان عنها في ندوة لوزير الداخلية قبل أن يتمّ إقرارها وتعيين أعضائها من بين النواب المنتسبين الى مختلف الاحزاب. ومهما كان فإنّ لجنة التحقيق قد تفطّنت بعد مباشرة أعمالها الى أنّ النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس قد أذنت – بعد اخضاع 5 من الموقوفين للاختبار الطبي- بفتح تحقيق في نفس الموضوع وان مباشرة القاضي لأعمال التحقيق في القضية قد صادف يوم 18 أوت الجاري ويظهر أنّ ذلك كان حافزا لأعضاء اللجنة لختم التوصيات النهائية وإحالتها قبل يوم من ذلك التاريخ على رئيس مجلس نواب الشعب . ورغم أنّي لم اطّلع على التقرير المكتوب الذي لم يتم نشره الى الآن إلاّ اني تابعت – اضافة الى التصريحات الصادرة عن الاستاذة بشرى – ما قاله ممثل حركة النهضة باللجنة المذكورة السيد نوفل الجمالي وقد بدا لي أن هناك بعض الاختلاف في تصور الطرفين لمهمة اللجنة وتقييم أعمالها لكن من الثابت – في حدود ما صدر على لسان الاستاذة بشرى- أنّ تصريحاتها قد تضمنت جملة من المخالفات القانونية – وحتى السياسية – الفادحة التي لا يمكن المرور عليها مرور الكرام من ذلك : اولا- استنادها في التعرض لقضية منشورة أمام القضاء الى لجنة التحقيق البرلمانية التي تمّ تشكيلها في الظروف المذكورة رغم أن الاستاذة قد أكّدت أنّ اللجنة كانت على علم بتعهد النيابة العمومية وصدور الاذن منها بإجراء فحص طبي على الشاكين وفتح تحقيق للبحث في شبهات التعذيب. وقد كان على الاستاذة بلحاج حميدة أن تعلم ان تكوين لجان التحقيق البرلمانية – وإن كان حقا ثابتا للمجالس التشريعية في مواجهة السلطة التنفيذية باعتبارها احدى أدوات الرقابة على الحكومة – إلا ان مبدأ الفصل بين السلطات يمنع عن تلك اللجان التعرض للقضايا المنشورة لدى المحاكم حتى وإن كانت تحت نظر النيابة العمومية وبالأحرى في تعهد قضاة التحقيق . ومن الواضح ان تبرير ذلك يرجع الى التخوف من التأثير السياسي على اعمال التحقيق القضائي وما يترتب عن ذلك من تهديد لاستقلالية القضاء ومنح البرلمان قوة مؤثرة على السلطة القضائية يمكن أن تؤدي الى المساس بحريات الافراد وحقوقهم . ولا أدري إن كانت الاستاذة تعلم ان مبدأ الفصل بين السلطات – الذي يمنع تدخل البرلمان في شؤون السلطة القضائية – يمنع كذلك تعرض الاسئلة البرلمانية لمسائل معروضة على القضاء والتعرض في المناقشات البرلمانية للأحكام أو الاجراءات الخاصة بقضايا بعينها أو النظر في مطالب تتضمن الإشارة الى مسائل معروضة على القضاء إضافة الى عدم جواز أن يستند الاستجواب الموجّه الى الحكومة الى مسائل مرتبطة بقضايا منشورة أو تحريات تجريها النيابة أو أبحاث يتولاها التحقيق. وفي ضوء هذه المبادئ يمكن أن نتصور الى أيّ مدى يمكن أن يؤثر تنقل الاستاذة – بصفتها النيابية و الحزبية – بين الاذاعات المختلفة وهي في حالة بث متواصل لمعطيات تتعلق بقضايا منشورة امام القضاء . ثانيا- تعرض الاستاذة بصفة متفاوتة الى ثلاث قضايا على الأقل منشورة لدى المحكمة الابتدائية بتونس وهي أولا القضية التحقيقية الارهابية التي شملت ما يعرف بأعضاء خلية القيروان و تم الاذن فيها بالإفراج عن المتهمين السبعة ومواصلة البحث معهم وهم في حالة سراح وثانيا القضية التحقيقية المتعلقة بالتعذيب المنسوب لبعض الجهات الامنية والتي أسلفنا الحديث عنها وثالثا قضية اغتيال الشهيد شكري بلعيد التي تم تفكيكها وأفراد المتهمين الموقوفين بقضية مستقلة تم نشرها لدى الدائرة الجنائية مع مواصلة الابحاث في القضية التحقيقية التي شملت المتهمين بحالة فرار . وقد كان من المفروض أن تمتنع الاستاذة عن التعرض بأي وجه لتلك القضايا المنشورة بالنظر الى صفتها النيابية وكذلك الامتناع عن اذاعة اسرار التحقيق فيها او نشر كلا او بعضا من الظروف المحيطة بها استنادا لما يقتضيه القانون (الفصل 62 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرّخ في 2 نوفمبر 2011 و المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر). ثالثا- إدلاء الاستاذة باستنتاجات ذات طبيعة قضائية على اعتبار أنها من نتائج لجنة التحقيق البرلمانية من ذلك الجزم بعدم وجود اختطاف في واقعة الموقوفين السبعة وبأنّ حجز هؤلاء من قبل الجهات الأمنية كان له أساس قانوني أنه لم يثبت عدم إعلام النيابة العمومية بذلك الاحتجاز وان أحد أعضاء خلية القيروان له علاقة بداعش وأن أحد الموقوفين اعترف بأنه تم الاعتداء عليه بعد الإستنطاق الخ… ومن شأن ذلك اما تكوين حجج لبعض الاطراف فيما يمكن أن يثار من نزاعات وإما الإضرار بالضمانات المقررة للمتهمين وأساسا قرينة البراءة وإما التأثير على مجرى القضايا . رابعا – هجوم الاستاذة صراحة على بعض قضاة التحقيق في ملفات لا زالت بعهدتهم والتحريض ضدّهم بقصد تنحّينهم وتوجيه الانتقادات الجارحة اليهم دون دليل حتى انها هاجمت أحد قضاة التحقيق لعدم سؤاله لأحد الموقوفين حول اجرائه لمكالمة هاتفية مع أحد عناصر داعش في العراق. وإضافة لذلك انتصبت الاستاذة – في سابقة مثيرة – لتقييم اداء القضاة عموما وذلك بتأكيدها أن " بعض القضاة تنقصهم الكفاءة للنظر في قضايا الإرهاب وأنهم يمثلون ضررا لا على القضاء فقط بل على أمن البلاد أيضا". ومن الواضح أنّ التعرض بالتجريح دون موجب وبصيغة تشبه الثلب لقضاة متعهدين بملفات جارية – حتى انها تحدّت أحد قضاة التحقيق ودعته الى تتبعها إن أراد – يمثل بمعزل عن صفة الاستاذة تهجما بالغ الخطورة من شأنه التأثير على سير القضايا زيادة على مساسه بثقة الناس في القاضي وبسمعته واعتباره الشخصي. ومن الأكيد ان تهجما من هذا القبيل يصدر عن قيادية في أحد الاحزاب الحاكمة ومن رئيسة لجنة الحقوق و الحريات بمجلس نواب الشعب ومن محامية – من المفروض أن تعلم الحدود القانونية لخطابها – يفتح الباب لتساؤلات حول الاهداف السياسية لتلك التصريحات وارتباطها بالقضايا محل النظر خصوصا وأنّ التهجم على قضاة التحقيق يشير الى قرارات الافراج المتعلقة بالموقوفين السبعة في مقابل التأكيد على أنّ الاحتجاز الاداري لهؤلاء قد تم طبق القانون وان لا وجود لأي اختطاف زيادة على عدم ثبوت التعذيب الذي يبقى من اختصاص المحاكم. هل ان التهجم على قضاة التحقيق و القضاة عموما هو بداية لحملة سياسية موجهة لارهاب" القضاة والحيلولة دون تطبيق القانون بشأن ممارسات التعذيب ؟" أعتقد ان تلك التصريحات لا يمكن تفسيرها خارج السياق السياسي ومحاولة عزل القضاء عن القيام بدوره كضامن للحقوق و الحريات.