في أزقّة الأحياء الشعبية التونسية، وعلى الأرصفة الترابية، كانت أصوات الضحك تتعالى كلما اجتمع الأطفال حول حفرة صغيرة حُفرت بإصبع أو حجر. هناك، وُلدت لعبة "البيس"، أو ما يُعرف أيضًا ب"الكجّات"، لعبة بسيطة في مظهرها، لكنها مليئة بالإثارة، التحدي، والذكريات الجميلة. البيس: كرة من زمن آخر "البيس" ليست مجرد كرة صغيرة، بل قطعة من الطفولة محفورة في الذاكرة. كانت تُصنع عادةً من الرخام أو الزجاج السميك الملوّن، وتتميّز بألوانها الزاهية واللمّاعة. بعضها شفاف، وبعضها فيه دوامات لونية في الداخل، وكان الأطفال يتباهون بمن يملك "البيسة" الأجمل أو الأقوى. البعض كان يحتفظ ب"بيسة ذهبية" لا تُستعمل في اللعب بل تُحتفظ ككنز. لعبة بحسابات دقيقة تبدأ اللعبة بحفرة صغيرة تُسمّى "البيس"، وهي الهدف الأساسي. يدور التنافس بين الأطفال لإدخال الكجّة في هذه الحفرة أو إصابة كجّة خصمه وإبعاده عن الحلبة. يُرمى الكجّ باستخدام الأصابع، بتقنية تتطلّب تركيزًا ودقة، وكثيرًا ما كانت تُرافقها هتافات وحركات بهلوانية عند تسجيل إصابة ناجحة. الطفل الذي يُبدع في إصابة كجّات الآخرين وجمعها، يُصبح نجم الحيّ. أما الخاسر، فيرجع إلى البيت ب"جيوب فارغة" وابتسامة خجولة. أكثر من لعبة "البيس" كانت مدرسة في الصبر، في التفاوض، وحتى في "التجارة"، حيث كان البعض يبادل كجّة بكجّتين أو بكجّة نادرة. كانت لعبة بدون شاشة، وبدون بطارية، لكنها ملأت القلوب بالفرح، وعلّمت الأطفال معاني الفوز والخسارة والروح الرياضية. اليوم، ومع تغيّر الزمن، غابت "البيس" عن الساحات، لكن ذكراها ما تزال حيّة في وجدان جيل تربّى على التراب، وعلى بساطة اللعب الحقيقي.