لم أطلب يدا تمسح دموع الفزع، لم أوقظ أحدا يعانقني كي أهدأ. علام يجب أن أكون ممنونا! لقد عشت أسوأ اللحظات، دستويفسكي. هرولت نحو السيارة مسرعة لتتمكن من اللحاق بموعد اجتماعها المرتقب. كانت المسافة شاسعة والوقت ضيق للوصول في الموعد المحدد. وضعت حقيبتها على الكرسي المجاور. بعد أن أخرجت سلسلة المفاتيح منها. دار الموتور وانطلقت السيارة مصدرة صوتا مزعجا على غير العادة. نظرت إلى تابلوه السيارة الأمامي حيث مؤشرات مستويات الوقود والزيت والماء والتبريد وبقية الأجهزة الأخرى علها تعرف السبب. الأمر عجيب. بل غاية في الغرابة!. هل تراها تحلم! يا إلهي! العلامات والألوان والمؤشرات مختلفة عما تعودت أن تراها. توقفت على جانب الطريق وهبطت من السيارة لتتأكد من معالمها. ياللهول! لم تكن سيارتها. بل لا تشابه مطلقا بينهما. لا في اللون ولا في الموديل ولا في الحجم ولا في التفاصيل الخارجية ولا في فخامة التصميم الداخلية. ما الذي دهاها لتركبها إذن؟ وكيف وصل مفتاح تلك السيارة العجيبة إلى سلسلة مفاتيحها الخاصة؟. نظرت إلى الشارع. حتى الشارع وجدته قاحلا خاليا من المارة، بدا غريبا عنها تماما. كيف جاءت إليه إذن؟. تلك البنايات الرمادية المتوسطة الطول، المتشابهة الغرابة، الخالية من النوافذ، على جانبي الشارع التي لم ترها طوال عمرها إلا في لوحات الفنانين التكعيبين. هل ما تعيشه كابوسا مزعجا سكنها واحتواها؟ أم حقيقة غريبة اختطفتها من عالمها المسالم في غفلة عاجلة؟ كيف إذن تتأكد؟ هل عليها أن تغمض عينيها وتفتحهما مرات عدة ليختفي ذاك الكابوس؟ كيف تغمض عينيها في طريق مثل هذه؟ وهي بالكاد تقود سيارة غريبة عنها؟ هل عليها أن تقرص فخذيها؟ أو أن تلطم وجهها بكفيها حتى تستفيق؟ وهي التي لم يرمش لها جفن منذ أن وضعت مفتاح السيارة في مكانه، وانتفض الموتور مزمجرا معلنا عن استغرابه من السائق؟ لم تجد بدا من الاعتماد على نفسها ودخول السيارة الغريبة مرة أخرى والانطلاق بها صوب المجهول علها تجد معلوما ما تعرفه في طريقها. صخبت الأرصفة على الجانبين بالمارة والعابرين الذين ظهروا فجأة من حولها. كان المارة شديدي الشحوب والاصفرار. كأنهم عائدين من عالم الموتى. كانوا ينظرون نحو اللاشيء بفراغ وشرود وخواء. يتناهى إلى أسماعها بعض من حوارات غير مفهومة، كأنها بلكنة تبدو أجنبية. يتبادلها المتحاورون دون أن ينظر الواحد منهم إلى الآخر. يهبطون إلى نهر الطريق. يسيرون ببطء استفزازي كأنهم آلات روبوتية مبرمجة. أخذت تضغط بكلتا يديها على المنبه الصوتي للسيارة بإلحاح مزعج، ليتنبهوا ويخرجوا من نهر الطريق، لكن دون جدوى. ارتعبت وهي تحاول الضغط بقوة على فرامل السيارة في أنهج ضيقة، حملتها السيارة إليها دون إرادة منها. نظرت حولها، وأمامها وإلى جانبها الأيمن والأيسر، فلم تر سيارة أخرى غيرها تنهب الطريق. ثم انتابها هاجس الخوف من الهجوم عليها. فأخذت تغلق النوافذ الجانبية بيديها، متوقفة بين الحين والآخر كي لا تدهس أحدهم. حتى غدا التجوال في الأنهج الضيقة ضربا من ضروب المغامرة والتهور التي لم تعتدها أو تقدم عليها أو تستسيغها طوال حياتها. ولكنها أخذت ترغم ذاتها وتخضع ذاكرتها على المتابعة والتركيز، علها ترى شيئا مألوفا تعرفه، يقودها نحو الواقع. فقدت بوصلتها إلى المرسى ولم يعد بإمكانها الرجوع نحو نقطة البداية. كانت تتمنى أن تقفل راجعة بكل بساطة لتصل إلى أي جزء من ماضيها التي تعرفه. احست بسائل دافئ لزج يتسلل بين فخذيها. ذعرت متسائلة هل يمكن أن يحدث لها ذلك الآن على إثر التوتر والخوف المتصاعدين بكيانها؟. ازداد الدفق وانسال ناعما، مبللا مقعدها بالكامل. ثم فاض هابطا نحو ساقيها. صدرت منها صرخات توجع وضيق مكتومة، لكنها لم تفكر بالتوقف مطلقا. لكن الأنهج الضيقة توقفت عن الظهور أمام مرآها. مدت أصابعها لزر الراديو المثبت بالتابلوه، تفتحه. فزعت من انطلاق فوضى مزعجة وضوضاء متداخلة من نشرات أخبار وبرامج اعلامية وأغان صاخبة وإعلانات تبثها مختلف الترددات الكهرومغناطيسية التي التقطها الايريال حينئذ. وكأنّ يدا خفية تحرك المؤشر بشكل متعمد وغير مستقر. تركت تلك الضجة مستمرة في المثول والتصاعد بعد أن فشلت في خفض مستوى الصوت. كانت فوضى الضوضاء العميمة تلك أرحم من الفوضى القاتمة التي اعتمرت رأسها، واستولت على جميع الأفكار والذكريات التي لديها، منذ أن وضعت قدميها في تلك السيارة العجيبة. خرج بعض الشرر من جوانب غطاء السيارة كأنه ذبذبة كهربية، بعد أن أصدر صوتا أجش أفزعها، لكنها قررت عدم التوقف نهائيا. مخافة أن تقف السيارة تماما ولا تستطيع أن تديرها مرة أخرى أو أن لا تجد شخصا وحيدا يساعدها في كابوسها المخيف هذا، وسط تلك المخلوقات التي لا تدري إلى أي جنس تنتمي. كان سيرها ووجودها في تلك السيارة العجيبة يشعرها بالأمان أكثر مما ستكون مترجلة على قدميها في هذا العالم الموحش. وجدت عشرات الذبذبات الشبيهة بتلك الشرارة الصادرة من السيارة التي تقودها، قد ملأت الفضاء الخارجي من حولها. طارت الذبذبات الكهربية في فضاء الطريق كأنها فراشات مضيئة يصطدم بعضها ببعض متناسلة شررا آخر. ثم ما لبثت أن رأت تلك الذبذبات متنمرة تتصيد أدمغة المارة والعابرين وتسكن إليهم. حتى خلا الفضاء تماما منهم وسط ضباب خريفي رمادي اللون عم المكان. وما إن مدت أصابع يدها اليسرى للتابلوه تبحث عن مفتاح إشعال الضوء الفسفوري الباهر، حتى امتلأت السماء أمامها وفوقها بمئات الطيور الرمادية الصغيرة الحجم. أخذت تطير على مستوى منخفض من السيارة، حتى أنها أصبحت قادرة على رؤية بعض من ملامحها الدقيقة مثل منقارها الأسود وريشها الأبيض أعلى العينين. بهتت رعبا وسرت رعدة كهربية بجسدها عندما حركت الطيور القريبة رأسها ملتفتة، لتنظر إليها. خيل إليها أن الطيور القريبة من زجاج النافذة قد رأت أعماقها في أجزاء من لحظة التقاء النظرات تلك. ضغطت بقدمها اليمنى فوق دواسة الوقود لتزيد سرعة السيارة. في نفس الوقت زادت الطيور هي الأخرى من سرعة طيرانها إلى الأعلى فزعا وهروبا. في بادئ الأمر للحظات قليلة، اعتقدت أنها المسؤولة عن فزع الطيور، إلى أن اكتشفت السبب الحقيقي. حين تحولت السحابات السوداء في الأفق إلى طيور أكبر سوداء اللون تشبه الغربان، تريد التهام الطيور الصغرى الرمادية اللون. "ألم يحن الوقت بعد للنهاية! يا إلهي. ماذا يحدث في عالمي؟ هل هو عبث الشيطان! " تضخمت مناقير الطيور السوداء أمام عينيها لتبتلع الطيور الرمادية تماما. وطارت ببطء منتصرة واقفة هناك. انتبهت إلى أشجار الصنوبر والسرو الضخمة الباسقة التي أحاطت بجانبي الطريق بشكل مخيف، أن أغصانها المتكاثفة قد احتوت أسراب الطيور المهاجمة السوداء اللون. تخلل إليها الفزع أكثر وأكثر. كان كل ما يمكنها رؤيته هو الألم والحزن. لن تموت من شدة الحزن بالتأكيد، لكنها لن تعيش وسطه أيضا. هل تستطيع الصمود ما بين الحياة والموت لوقت أطول! قطعت وحدتها ظهور سيارات أخرى مرقت بجانبها، تتعداها وتسابقها. حاولت أن تتبين ملامح سائقيها فلم تفلح، بسبب زجاج النوافذ المعتم الذي يلفها. ومع كل طريق رئيسية تقطعها، تداهمها نوبة حرارة مرتفعة، تشعر بها تفور بداخل شرايينها. تتفصد بعدها عرقا غزيرا يغطي كامل أجزاء جسدها. يتساقط من بين خصلات شعرها فوق المقود. ثم ما تلبث قطراته أن تنحدر فوق رموشها، لتحرق عينيها وتمنعها من الرؤية الواضحة للحظات معدودة. حتى تمسح بعضه بظهر يديها فزعة حانقة. ودون أن تبحث عن طريق أخرى لها، فهي لا تجد سوى طريق واحدة تلتقمها قطعة قطعة. كانت لديها صباحات مزعجة، تستيقظ فيها على أصوات كسورها الأكثر ألما. لم تتخيل قط أنها ستضطر يوما إلى ابتلاع كل حظوظها المؤلمة دفعة واحدة، بينما تبحث عن فكرة، مجرد فكرة واحدة تسد بها فراغ يومها المضطرب، في صحبتها الوحيدة مع فنجان قهوتها اليومي، علها تجد دواء يقي عقلها من اضطراب التفكير اللعين. في انعطافات حادة ظهرت لها فجأة في الطريق السيارة، اضطرت إلى تقليل السرعة والضغط على فرامل السيارة بحذر. اكفهرت السماء بلون قرمزي مباغت يحمل العشرات والعشرات من طيور حمراء دقيقة كالطير الأبابيل. ما إن هبطت بأجنحتها لما فوق مستوى الأبنية والأشجار المحيطة بالطريق. حتى اندفعت لتنتحر فوق زجاج السيارات مشوهة رؤية السائقين. جفلت مذعورة وقلبها يثب بين ضلوعها مثل السمكة المضطربة. اهتز المقود بين يديها، وهي تحرك مساحات الزجاج في المقدمة لتزيل آثار الدماء الحمراء وبقايا ريش وجثث الطيور المهشمة من فوق الزجاج الأمامي للسيارة. ولا تزال تغزوها أصوات ارتطام الطيور الانتحاري فوق هيكل السيارة التي تقودها وهياكل السيارات الأخرى المجاورة في الطريق دون أن يفكر أحد منهم في التوقف أو تغيير معدل السرعة. كأن الطيور الحمراء قد تحولت إلى صخور دقيقة وأحجار صغيرة لرجمهم جميعا. تنفست الصعداء واعتقدت أنها نجت من موت محقق، حين انتهت أسراب الطيور الحمراء من السماء. لم تلبث أن اعتصرت أهاتها وتنهداتها العميقة، حتى شعرت برجفة قشعريرة تعتريها ورغبة ماسة في حك ساقيها. رفعت طرف ثوبها من فوق ركبتيها، لتتحقق من الأمر الذي تخافه، ولم تكن تنتظره. لتجد ما هبط من بين فخذيها من قطرات سائلة لزجة، يتحول إلى نقشات بديعة من الزهور مختلفة الأشكال متداخلة الافرع تلتف حول ساقيها البضتين. ورائحة الخضاب النفاذة ترتع في الفضاء الداخلي للسيارة من حولها. لم تعرف كنه ما غزاها من مشاعر حينها. هل تهدأ وتطمئن وتتفاءل خيرا؟ أم يتفاقم فزعها ويعظم خوفها من فكرة هبوطها من مقعدها بالسيارة لينفضح أمرا بللها أمام الغرباء، الذين تظن أنهم الضالعون في سجنها وسط ذلك الكابوس المخيف؟ تشعر أن وقتا مهولا قد مر عليها وهي تقطع الطرق الرئيسية والمنعرجات الفرعية والأنهج الضيقة الزلقة، وتلاقي أنواعا شتى من مخلوقات مشوهة متصدعة ليس إلا. لم تستطع الوصول إلى أمان واحد يحتويها، لا صديق ولا حبيب ولا صاحب ولا قريب أو غريب، قدرت على استدعائه في انثيالات ذاكرتها. فلا أحد مجبر على مساعدتها في رحلتها للنضج سوى نفسها. حتى أفكارها المضطربة لم تستطع ترويضها. راحت تنهش خلايا دماغها دون توقف منذ اكتشافها للخلل الكابوسي الذاتي الذي سحبها في سجن عظيم من الخوف. كل ما تمتلكه من رصيد ذكريات قد أختفى، أو كأنه وقد اغتيل أو حبس في سجن آخر من جانب كابوسي بعيد عن نهارها المتعب الفارغ. امتص الرعب والفزع كل طاقاتها واصرارها في النجاة. قررت أن تترك روحها لقدر الطريق التي تنهبها بوحشية وتملك. لم تكد تنتهي إلى قرارها تلك حتى اصطدم رأسها بقوة في جدار الغرفة. كان واحدا من أحلامها المستعصية على الفهم. تلك الأحلام المرهقة الغازية لأبعادها الحسية والنفسية والعصبية. التي تقطنها منذ انقطاع الطمث عنها وانتشار النقص الحاد لهرمون البروجسترون في خلايا دماها. كان كل موقف حدث لها في ذلك السجن الكابوسي- مهما كان بسيطا- يدفعها بشكل عجيب إلى مأساتها الذاتية في البحث عن ذكرى أمان قريبة تسكنها. د. أنديرا راضي