انطلقت تونس في التجسيد الفعلي لمسار العدالة الانتقالية بعد حوالي سنتين من رحيل الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ، ولاقت هذه المبادرة آنذاك دعما واسعا من المجتمع الدولي خاصة وان اضطلاع تونس بهذه المهمة يعني مواجهة تحديات سياسية و بنوية متأصلة في جذور الدولة ، ذلك أنّ تجربة العدالة الانتقالية في تونس كان لها من الأعداء ما يكفي لتعطيل مسارها في كل مرة و عرقلة مراحلها ، مرورا إلى مُحاولة تمصها ، عبر إيقاف نشاط هيئة الحقيقة و الكرامة ، الهيئة التي اضطلعت بمهمة كشف الحقيقة في مختلف الإنتهاكات ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر الضرر ورد الإعتبار لضحايا المنظومة الاستبدادية و الذي يبلغ عددهم قرابة 200 ألف مواطن . و عرفت الهيئة منذ الانطلاق الفعلي في عملها ، في 2014 جملة من العراقيل عند محاولة نقل الأرشيف من قصر قرطاج الرئاسي إلى مقرها، حيث تم منعها من قبل أعوان احدى النقابات الامنية من ذلك. رغم الإتفاق المسبق بين الهيئة والرئاسة منذ شهر جويلية 2014 ، لتتواصل المطبات و العراقيل الادارية و الشدّ و الجذب . وخلال مراحل عملها، عقدت الهيئة عشر جلسات استماع علنية لضحايا الدكتاتورية بثت مباشرة ولأول مرة بالتاريخ التونسي في وسائل الإعلام، وانتظمت أول جلسة استماع في 15 نوفمبر 2016 وتعلقت بشهادات ثلاث عائلات من التيار اليوسفي والإسلامي واليساري. لكن تعقيدات قضايا الانتهاكات لم تكن لوحدها السبب المباشر لتأخر عمل هيئة الحقيقة، إذ إنه تم وضع العديد من العراقيل عن قصد أمام الهيئة لتعطيل عملها وأبرزها منعها من النفاذ إلى أرشيف وزارة الداخلية وعدم تسهيل عملها إداريا. بسبب كثرة ملفات الانتهاكات المحالة إلى هيئة الحقيقة والكرامة وكثرة جلسات الاستماع السرية للضحايا (46 ألف جلسة) والتحريات المطلوبة للتثبت بصحة تلك الملفات،لم تتوصل الهيئة لإنهاء عملها في الوقت المطلوب، ما دفعها للمطالبة بالتمديد لعملها بسنة اضافية حسب ما يخوله القانون . ويستند قرار تمديد الهيئة إلى الفصل 18 من قانونها الأساسي الذي يخولها اتخاذ هذا القرار مع تعليل أسبابه للبرلمان، غير أن بعض الأحزاب رفضت قرار التمديد و صوتت في جلسة عامة اتفق على تسميتها ب(الجلسة العدمية) ، لاختراقها لقوانين النظام الداخلي للمجلس . هيئة الحقيقة و الكرامة لم تعد قضية وطنيّة تُعنى بها الأوساط المحلية فقط ، اذ أنّ القضية دٌولت و باتت محل أنظار العالم و يُكتب عنها في الصحف الأجنبية ، و نشرت صحيفة لوموند الفرنسية مقالا عبرت فيه عن استيائها من المهزلة القانونية التي شهدها مجلس نواب الشعب بتصويت مخالف للنصاب القانوني ، الجريدة اعتبرت ايضا ان العدالة الانتقالية ضرورة حياتية لقرابة 200 ألف مواطن يعلقون امالهم على الهيئة. و في مقال لها نشر يوم الثلاثاء 3 افريل 2018 في موقع صحيفة لوموند الفرنسية و ترجمه موقع " باب نات" ، عبرت فرح حشاد الحقوقية التونسية وحفيدة الزعيم فرحات حشاد عن إستيائها من المهزلة القانونية التي شهدها مجلس نواب الشعب التونسي بتصويت 67 نائبا ضد التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة والتي يمنحها الدستور حق التمديد الذاتي بسنة لأعمالها واعتبرت فرح حشاد ان العدالة الانتقالية ضرورة حياتية لقرابة 200 الف مواطن يعلقون آمالهم على هيئة الحقيقة والكرامة التي تلقت مؤخرا قرابة 63000 ملف من شخصيات حقيقية وليست وهمية،اشخاص تعرضوا إلى التعذيب والتنكيل والتهجير وقطع الارزاق والهرسلة في زمن الديكتاتورية ولازالوا بعد 7 سنوات من سقوطها ينتظرون الحقيقة والكرامة. وأشارت حشاد إلى ان الاخطاء التي ارتكبتها هيئة الحقيقة والكرامة معتبرة انها اخطاء منتظرة كما تتحمل مسؤوليتها السلطة التشريعية ونظيرتها التنفيذية بتعمدهما تعطيل عمل الهيئة بمنع تمكينها من الوثائق والارشيف كما ان العديد من الساسة التي يفترض منهم حماية الديمقراطية الناشئة يسعون إلى ضرب العدالة الانتقالية وطي صفحتها وقبرها بخرق القانون والدستور،فالنواب الذين يتذرعون بالقانون لعرقلة نشاط هيئة الحقيقة والكرامة هم انفسهم يتلكؤون في انتخاب اعضاء المحكمة الدستورية وقاموا بخرق القانون والدستور واستماتوا لأجل تمرير قانون المصالحة المشبوه بل وعملوا لسنوات لتشويه هيئة الحقيقة والكرامة. وختمت فرح حشاد مقالها بالاشارة إلى ان من يحاول عرقلة عمل هيئة الحقيقة والكرامة هم في الاصل يخشون نجاح العدالة الانتقالية والتقرير النهائي الذي قد يقضي على مستقبلهم السياسي لا سيما ان التقرير سيصدر في 2019 اي على مسافة امتار من الانتخابات التشريعية والرئاسية. و يرى مراقبون أن الاشكال لا يتعلق بالهيئة فقط و انما مسار برمته فالهيئة ماهي الا وسيط في تنفيذ العدالة الانتقالية لان العدلة الانتقالية و الانتقال الديمقراطي مساران متلازمان لا يمكن فصلهما فتحقيق العدالة الانتقالية يمكن من الوصول الى انتقال ديمقراطي في تونس. في هذا الصدد ،أكّد المحلّل و السجين السياسي السابق الطاهر شقروش ، أنّ هيئة الحقيقة و الكرامة بمثابة نقطة بارزة في مسار الثورة التونسية ، إذ يعدّ انبثاقها منعرجا لتصفية تركة الماضي ، بما يحمله من انتهاكات و تجاوزات في حقّ الأفراد و الجهات و بما يحمله من امكانيات عديدة لبناء توافق وطني قائم على الانصاف و الحقيقة ، فلا يمكن النظر للمستقبل دون تصفية تركة الماضي و هذه المآسي، على حدّ قوله. و لفت مصدرنا ، إلى أنّ اختزال مهمة الحقيقة و الكرامة في جبر الضرر هو إجحاف كثير، مشيرا إلى أن الكثيرين تقدموا بمطالبهم و لا يريدون بذلك سوى الكشف عن الحقيقة و الكشف حسب محللنا لا يعني القصاص و إنّما طريقٌ للمصالحة الحقيقة و بدون ذلك لا يمكن القضاء على الأحقاد ، و يضيف شقروش "هيئة الحقيقة و الكرامة التي بعثت بمقتضى الدستور لا يمكن أن تتحول لمحكمة لا يمكن في نفس الوقت أن تغضّ الطرف عن الجرائم المرتكبة." و أشار الطّاهر شقروش ، إلى أنّ هيئة الحقيقة و الكرامة قامت بعمل كبير، عبر معالجتها أكثر من (64ألف)، ملفتا إلى أن هذه الملفات تعدّ جزءًا لا يتجزأ من تاريخ تونس و لكنها ليست تاريخ تونس ، على حدّ قوله. و تابع المحلّل السياسي الطارق شقروش بالقول" اختزال مشاكل الهيئة في شخص رئاستها و تصرفاتها أمر غير مقبول ، المهم في ذلك اتمام مهامها عبر تقديم تقريرها النهائي . و أضاف محدثنا "حتى نكسب الوقت و المال يجب اتمام ما تم القيام به و صدور الحكم النهائي ثم الحكم على جدوى هذه الهيئة ، و أضاف شقروش " ما أضعناه من الوقت ليس بالشكل القليل و المطلوب هنا في تونس هو أن نجد توافقات نستطيع نمرّ بها إلى بر الأمان ، المطلوب هنا ليس الاحتكام فقط للتصويت و لكن المطلوب هو التوافق على جوهر العدالة الانتقالية وهي الحقيقة و الانصاف ، والأهم من كل ذلك هو إنجاز العدالة الانتقالية و التواصل إلى توافق فعليّ، على حدّ قوله .