يضعنا الإضراب العام الذي نظمه الاتحاد العام التونسي للشغل الخميس 17 جانفي 2019 في القطاع العام والوظيفة العمومية ونجح في حشد الصفوف إليه بعد جهود وحملات دعائية منذ أشهر وتمكنت من خلالها من استمالة قاعدة واسعة، أمام جدلية ضعف الدعاية الرسمية للحكومة قبالة السياسة الاتصالية المُحكمة وغير المسبوقة لاتحاد الشغل، ممّا دفعنا لإجراء مقارنة بين التوجه الاتصالي الذي انتهجه الحبيب بورقيبة واستراتيجياته الدعائية عند الأزمات والأحداث الكبرى، والتوجه الاتصالي الهزيل والفاشل الذي تعتمده حكومة يوسف الشاهد. وتعتبر استراتيجيات الاتصال السياسي وتقنياته، عمومًا، أحد أبرز المعايير التي يقاس بها نجاح الحكومات ومؤسسات الدولة من عدمه، باعتبارها تمثّل واجهتها أمام الرأي العام المحلّي أو الخارجي على حدّ سواء. وفي جلّ اقطار العالم، تحظى الدعاية الرسمية بمكانة هامّة حيث تمثل وسيلة إدارة الأزمات واحتوائها وطمأنة المواطنين وإقناع الرأي العام بمواجهة مواقفه. إضراب 1978 والتناول الدعائي الرسمي لم تمضِ أشهر قليلة على الإضراب العام الذي قاده الاتحاد العام التونسي للشغل في 26 جانفي 1978 الذي عُرف ب”الخميس الأسود” لِما رافقه من مواجهات دموية سلطتها حكومة الهادي نويرة على المتظاهرين، حتّى سارعت وزارة الإعلام آنذاك إلى إصدار كتاب حول “محاكمة المسؤولين عن حوادث 26 جانفي 1978” وثّقت فيه قرار ختم البحث فيما يخصّ أحداث جانفي (يوم الخميس 14 سبتمبر 1978) ، وشهادات عدد من المسؤولين والقيادات النقابية على غرار محمد الناصر الذي شغل خطة وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة الهادي نويرة و براون ارفينق ممثل النقابات الأمريكية في أوروبا ومحمد الصياح الوزير المعتمد لدى الوزير الأول آنذاك ومدير الحزب الدستوري الاشتراكي (…إلخ.) (30سبتمبر 1978)، مرافعة النيابة العمومية (4 أكتوبر 1987) ومرافعات الدفاع ) 4-5-9 أكتوبر 1978) ونصّ الحكم (10 أكتوبر 1987) وقرار الدائرة الخاصة للتعقيب بمحكمة أمن الدولة (2 نوفمبر 1978)). ويندرج هذا الكتاب في إطار التوجه الاتصالي الذي أحكم نظام بورقيبة انتهاجه خلال فترة حكمه، إذ كان يولي أهمية كبرى للاتصال والدعاية الرسمية للتأثير في الرأي العام والتصدي إلى الدعاية المضادة، وهو ما أكده تقرير الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال الصادر في 2012 الذي سلّط الضوء على “السياسة الإعلامية الذكية والواقعية” التي انتهجها بورقيبة من أجل “إحداث تأثير إيجابي على الرأي العام وتقريب المواطن من واقع بلاده وتوجيهه نحو اهتماماتها ومواكبة مسيرتها عن اقتناع”. وقد اعتمد بورقيبة هذه السياسة منذ أول عهده بالسلطة على رأس الجمهورية الأولى، إذ أصدرت كتابة الدولة للشؤون الخارجية للجمهورية التونسية في ديسمبر 1958 ما أسمته “كتاب أبيض” حول “الخلاف بين الجمهورية التونسية والجمهورية العربية المتحدة” وقع في أغلب محاوره شيطنة المقاوم صالح بن يوسف، في خطوة من النظام لتوجيه الرأي العام وإدارة أزمة الحكم في ظلّ التفاف فئة كبيرة من الشعب آنذاك حول بن يوسف. ومهما كانت المواقف تجاه نظام حكم بورقيبة، فإن قوّة الدعاية الرسمية آنذاك التي عمل على تطويرها سواء من خلال المنشورات التي تصدرها مؤسسات الدولة أو من خلال خطاباته الاتصالية الموجهة للتونسيين قد عزّزت مكانته ومكنته من التسويق لصورته في الداخل والخارج على أنه المجاهد الأكبر والقائد المحنك القادر على إدارة أزمات البلاد مهما تضخمت. الضعف الاتصالي لحكومة الشاهد اليوم، في ظلّ الجمهورية الثانية، لا يختلف اثنان حول عمق الهوة الاتصالية التي تشكو منها الحكومة والتي ما انفكّت تُكشف معالمها مع كلّ أزمة تشهدها لتتعرّى تماما اليوم في ظلّ الإضراب العام الذي نجح اتحاد الشغل بقيادة أمينه العام نورالدين الطبوبي في الحشد إليه بعد سلسلة من الاجتماعات واللقاءات مع أنصار الاتحاد ومنظوريه من عمال وموظفين في الساحات العامة في كلّ جهات البلاد. هذا الإضراب، بعيدا عمّا من شأنه أن يأتي به من نتائج وتداعيات، قد أثبت أنّ المنظمة الشغيلة قد تمكنت من تجاوز عُقدها الاتصالية ونجحت إلى حدّ ما تسطير تكتيك اتّصالي ذكيّ حقّقت من خلاله نجاحا ميدانيا واسعا أغراه بطموح انتخابي في الاستحقاقات الانتخابية القادمة المزمع إجراؤها في موفّى 2019. وفي المقابل، بان بالكاشف المسار الاتصالي الهزيل لحكومة يوسف الشاهد التي فشلت اتّصاليا في إقناع الرأي العام بمواقفها، عززه الأداء السلبي والتصريحات المهتزّة للناطق الرسمي باسم الحكومة إياد الدهماني الذي سبق أن اهتزّت ثقة الرأي العام التونسي به بعد أدائه الذي وصف ب”التهريجي” في المجلس الوطني التأسيسي. ولعل أبرز مظاهر فشل التوجه الاتصالي الذي يعتبر من أضعف حلقات سياسات الدولة في تونس، تكمن في الخطابات السطحية والمجانبة للانتظارات والتي تتضمن عبارات تهديدية تارة وترهيبية طورا، عوضا عن رسائل طمأنة والمعلومات المفيدة التي من شأنها أن تضع التونسيين في الصورة الواقعية، فضلا عن غياب إستراتيجية اتصالية واضحة المعالم لدى الأجهزة التنفيذية، مما فسح المجال أمام الدعاية المضادة لتقزيم الإنجازات الحكومية التي تتحقق في شتى المجالات مما يحول دون إشعاع الأجهزة التنفيذية والأداء الإيجابي لرموز الدولة لدى الرأي العام.