عين دراهم: حملة واسعة للتصدي للانتصاب الفوضوي    الجبابلي: تونس وفّرت تذاكر سفر للمهاجرين غير النظاميين للعودة إلى بلدانهم..    سحر البُن.. وعبق الإبداع والفن    اختتام مشروع "البحر الأزرق هود"    ارتفاع لافت في مداخيل السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج... مؤشرات إيجابية للاقتصاد الوطني    زيارة وفد نيابي الى المركب الصحي بجبل الوسط: تراجع خدمات المركب بسبب صعوبات عدة منها نقص الموارد البشرية وضعف الميزانية والايرادات    عاجل/ ايران تطلق دفعة جديدة من الصواريخ…    عاجل : أزمة جديدة تلاحق محمد رمضان    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    وائل نوار: الرهان المستقبلي لقافلة الصمود حشد مئات الآلاف والتوجه مجددا لكسر الحصار    حماية المستهلك والتجارة الإلكترونية: تذكير بالقواعد من قبل وزارة التجارة وتنمية الصادرات    مقترح قانون لتنقيح قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين    وزيرة الشؤون الاجتماعيّة بحكومة الوحدة الليبيّة تدعو إلى تعزيز التعاون بين تونس وليبيا في مجالات العمل الاجتماعي لفائدة الطفولة الفاقدة للسند    وزير السياحة يؤدي زيارة إلى ولاية جندوبة    إزالة مخيم ''العشي'' للمهاجرين في العامرة..التفاصيل    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    منتدى الحقوق الاقتصادية يطالب بإصلاح المنظومة القانونية وإيجاد بدائل إيواء آمنة تحفظ كرامة اللاجئين وطالبي اللجوء    بداية من 172 ألف دينار : Cupra Terramar أخيرا في تونس ....كل ما تريد معرفته    عاجل: اتحاد الشغل يطالب بفتح مفاوضات اجتماعية جديدة في القطاعين العام والوظيفة العمومية    بلومبيرغ: إيران تخترق كاميرات المراقبة المنزلية للتجسّس داخل إسرائيل    عودة التقلّبات الجوّية في تونس في ''عزّ الصيف'': الأسباب    ''مرة الصباح مرة ظهر''.. كيف يتغيّر توقيت اعلان نتيجة الباكالوريا عبر السنوات وما المنتظر في 2025؟    عاجل: القلق الإسرائيلي يتصاعد بسبب تأجيل القرار الأميركي بشأن الحرب على إيران    النادي الإفريقي يعلن عن موعد الجلسة العامة الانتخابية    صلاح وماك أليستر ضمن ستة مرشحين لجائزة أفضل لاعب من رابطة المحترفين في إنقلترا    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    من مكة إلى المدينة... لماذا يحتفل التونسيون برأس السنة الهجرية؟    المنتخب التونسي للكرة الطائرة يختم تربصه بإيطاليا بهزيمة ضد المنتخب الايطالي الرديف 3-1    وزير الإقتصاد في المنتدى الإقتصادى الدولي بسان بيترسبورغ.    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي يواجه الليلة لوس أنجلوس الأمريكي    طقس اليوم: أمطار بهذه المناطق والحرارة في ارتفاع طفيف    بطولة برلين للتنس: أنس جابر توانجه اليوم التشيكية "فوندروسوفا"    ميسي يقود إنتر ميامي لفوز مثير على بورتو في كأس العالم للأندية    كاس العالم للاندية : ريال مدريد يعلن خروج مبابي من المستشفى    روسيا تحذّر أمريكا: "لا تعبثوا بالنار النووية"    عاجل/ عقوبة سجنية ثقيلة ضد الصّحبي عتيق في قضية غسيل أموال    صاروخ إيراني يضرب بئر السبع وفشل تام للقبة الحديدية...''شنو صار''؟    عاجل/ طهران ترفض التفاوض مع واشنطن    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    ما تستهينش ''بالذبانة''... أنواع تلدغ وتنقل جراثيم خطيرة    عاجل/ سعيّد يكشف: مسؤولون يعطلون تنفيذ عدد من المشاريع لتأجيج الأوضاع    خامنئي: "العدو الصهيوني يتلقى عقابه الآن"    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    بالفيديو: رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء...التفاصيل    كأس العالم للأندية: أتليتيكو مدريد يلتحق بكوكبة الصدارة..ترتيب المجموعة    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    شارع القناص ...فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي .. الثقافة وهواة اللقمة الباردة : دعم ومدعوم وما بينهما معدوم.. وأهل الجود والكرم غارقون في «سابع نوم»!    موسم الحبوب: تجميع4.572 مليون قنطار إلى غاية 18 جوان 2025    خطبة الجمعة... ذكر الله في السراء والضراء    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    وفاة أول مذيعة طقس في العالم عن عمر يناهز 76 عاما    أمطار أحيانا غزيرة ليل الخميس    بعد 9 سنوات.. شيرين تعود إلى لقاء جمهور "مهرجان موازين"    اطلاق بطاقات مسبقة الدفع بداية من 22 جوان 2025 لاستخلاص مآوي السيارات بمطار تونس قرطاج الدولي    وفاة 5 أعوان في حادث مرور: الحرس الوطني يكشف التفاصيل.. #خبر_عاجل    الخطوط التونسية: تطور مؤشرات النشاط التجاري خلال أفريل وماي 2025    أمل جديد لمرضى البروستات: علاج دون جراحة في مستشفى الرابطة.. #خبر_عاجل    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عمارة المفكر الحي
نشر في الشاهد يوم 03 - 03 - 2020

محمد عمارة، الكاتب والمفكر المصري، نموذج فريد من نوعه في الساحة العربية والإسلامية الأوسع. لا يعود ذلك لغزارة كتاباته وتنوع عناوينه، التي غطت ساحات وتخصصات متعددة فحسب، بل للمسار الفكري الذي اختطه لنفسه ومنحه ملمحًا خاصًا وبصمة مميزة في المشهد الإسلامي.
بدأ محمد عمارة حياته الفكرية يساري التوجه قومي الهوى. لكنّ المثقف المتشبّع بالتراث الإسلامي والتقاليد الأزهرية العريقة، لم يفقد توازنه حتى في الحقبة اليسارية. فاليسار لم يعن له غير مناهضة الاستعمار والهيمنة الإمبريالية على مصير الأمة العربية ومقدراتها، والدفاع عن العدالة الاجتماعية ومصالح المهمّشين والمفقّرين.
أتاحت له صدمة السجن زمن عبد الناصر تأمّل مساره وتصويب بوصلته الفكرية، فدنا من التوجهات الإسلامية، دون تقيد ايديولوجي أو انتماء حصري واضح. فالإسلام ظل في عينيه مشروعا حضاريا، آمن به وتشبّع بقيمه الروحية والأخلاقية والسياسية.
والحقيقة أن محمد عمارة لم يغادر الساحة الإسلامية أصلا، حتى في حقبته اليسارية، ليقال إنه بات إسلاميا، بل انتقل من زاوية التأويل اليساري والاشتراكي للإسلام إلى الزاوية الإصلاحية الأزهرية للإسلام.
لم يكن انتقاله من المحطة اليسارية أو العروبية انعطافًا حادّا، بل تطوّرا ومراكمة، استوعبت السابق في اللاحق ضمن رؤية مركبة وشاملة.
كتب عمارة في قضايا شتى، وأغنى المكتبة العربية بما يربو عن سبعين عنوانًا. كتب عن المعتزلة والأشاعرة، وعن الغزالي وابن رشد، وعن ابن تيمية والشوكاني، وخير الدين التونسي وعلي عبد الرزاق، وعن الإصلاح الديني في المشرق والمغرب.
ساجل تيارات التشدد من العلمانيين والإسلاميين، ودافع عن قيم الحرية والعدالة، ووقف إلى جانب ثورات الشعوب، ورفض الانقلابات وحكم العسكر. ظل صامدا على مواقفه ولم يبدّل تبديلا، حتى حين دوّى الرصاص في ليل مصر وخيّم الخوف وفتحت السجون أبوابها على مصراعيها وانتصبت المشانق مجدّدا.
لم يعط الدنية في رأي أو موقف واحد، ولم يجامل أو يوال حكم القوة والبطش.
أهمية عمارة تكمن في تأسيسه مدرسة إسلامية متميزة، صاغ ملامحها ووضع إطارها العام، وفتحها على آفاق واسعة لم تستنفد أغراضها بعد، لتشكّل الاتجاه المستقبلي لحالة إسلامية مازالت تشكو أخلالا مزمنة في الوعي والممارسة.
تحرّك عمارة على خطين مترابطين، جعلا منه ظاهرة استثنائية:
1- أعاد وصل التيار الإسلامي الحركي والتنظيمي بالحركة الإصلاحية، بفضل جهده الجبّار في جمع وتحقيق ادبيات الاصلاحيين، من الأفغاني وعبده، إلى رشيد رضا والكواكبي وشكيب ارسلان وسعد زغلول وعبد العزيز الثعالبي.
وحين اتجهت الحالة الإسلامية، الواقعة تحت تاثير مشيخات النفط، نحو الفكر السلفي الشكلاني، بقي ثابتا على الخط الاصلاحي المستنير. بفكره وقلمه وجهاده السياسي، كان عمارة تلميذًا وفيًا أصيلًا لروّاد مدرسة الإصلاح الاسلامي، بعقل كبيرا كبر تراث آبائها العظامِ.
2- اتجه الإسلاميون إلى مناهضة القومية العربية، جرّاء الصدام المرير مع عبد الناصر، ووصل بهم الأمر حدّ اعتبار الرابطة العربية ضربًا من ضروب الجاهلية والخروج على الإسلام، كما فعل سيد قطب.
تصدّى عمارة لهذه النّزعة، مبيّنا عمق الصلة بين العروبة والإسلام، مؤكّدا أن العرب رافعة أساسية لنهوض الإسلام والمسلمين، ومدافعا عن فكرة الوحدة العربية في واقع التجزئة والوهن الذي يتخبط في أتونه العرب.
لم يعتبر العروبة فكرًا أو أيديولوجيا، بل رابطة سياسية ضرورية ضمن مشروع نهوض الإسلام الواسع.
وعمارة في هذا أيضا وفيّ للحركة الإصلاحية، التي أكدت على أهمية الرابطة العربية، وسعت لتخليص مشروعها من مخلّفات النزاع العربي التركي، الذي ظهر أواخر الدولة العثمانية، وكانت نتائجه وخيمة على العرب والترك على السواء.
القومية العربية عند عمارة، ببساطة، مشروع سياسي لوحدة العرب ونهضتهم، في إطار التكامل مع الجوار الإسلامي، لا انتماء عقديّ ايديولوجي، كما هي عند القوميين العرب.
بخلفيته الأزهرية وتكوينه الإسلامي المتين، وقف عمارة بجرأة في وجه التشدد الإسلامي الذي ارتفعت في مصر، مع بروز تيارات التطرف، كالتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية، وقارع رموزهم بصلابة الحجة النصية والواقعية، منتصرا لمعاني الوسطية والاعتدال في فهم النصوص والواقع.
قاوم مشايخ الوهابية الرسمية، بفكره وقلمه ولسانه، مؤصّلا للتعدد المذهبي والتسامح الديني، وقيم الفن والجمال والحرية ورفض الحكم الفردي والشمولي.
وعلى الضفة المقابلة، ساجل رموز العدمية الحداثية، الذين سعوا جاهدين لتقويض كل ثوابت الدين والنصوص، ومناهضة كل ما له صلة بالإسلام والتراث الأزهري، وجادلهم بلا كلل او ملل.
ولعل هذا ما يفسر حساسية، بل عداء كل هؤلاء له ولاطروحاته.
عمل عمارة على تأصيل مفهوم السلفية، كما استقر عند زعماء الإصلاح، نبذا للجمود والتقليد، واعلاءًا لمبدأ الاجتهاد، وتأكيدا على ضرورة الاستفادة من كل ما ينفع الناس، أيا كان مأتاه.
كان مفكرا إسلاميا أصيلا، وحداثيا متبصرا في آن.
وقف عمارة خارج الحدود الأيديولوجية والتنظيمية، لكنه كان صاحب صولاتٍ وجولات في المحطات الحاسمة. ناصر ثورة 25 يناير دون تردد، عنوانًا لتحرر مصر والأمة العربية، وساهم في وضع الدستور الجديد.
وحين داست الدبابات على الصناديق وسالت الدماء في الشوارع انهارا، رفع صوته ضد الانقلاب وحكم العسكر الغاشم. ظل معتصما بقلمه، منافحا عن قيم الحرية والعدالة.
لكن عمارة، على جلال قدره وعمق فكره وثرائه لم ينل بعد ما يستحق من العناية والاهتمام، وهو الذي غطت أعماله مساحات شاسعة، امتدت من علم الكلام والفلسفة والأصول الى التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع.
ونحن اليوم احوج ما يكون لهذا الفكر، الجامع بين التجذّر العميق في التراث، والوعي التاريخي المتّقد، والانفتاح على آفاق المستقبل..
رحم الله محمد عمارة، الفقيهَ واللغويَّ والمفكر والفيلسوف والسياسيَّ الأريب، وأسكنه جنان خلده.
بقلم سمية الغنوشي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.