بعد ان خسرت قوى الردّة رهانات انتخابات 23 اكتوبر، وتأكّدت عبر كلّ مؤسسات سبر الآراء في الداخل والخارج، المرتبطة بها والغير مرتبطة، بأنّ ايّ انتخابات قادمة سوف لن تكون في صالحها، فقد سعت هذه القوى الى صنع المعجزة التونسيّة الأخرى، وهي انتاج "دولة القضاة" التي ستكون في حلّ عن كلّ مؤسسات الدولة الأخرى، وتضمن للفسدة البقاء كما يشاءون. السلطات ثلاث، التنفيذية والتشريعيّة والقضائية. الأولى والثانية مشتركتان في كونهما تخضعان لسلطة الشعب، للانتخاب. والثالثة، القضائية، يريدونها منفصلة انفصالا جذريا، ولا سلطة لأحد غير القضاة عليها. ومع انّ لا أحد يعترض على استقلاليّة القضاء، الاّ ان السؤال المهم من هم القضاة الذين سيسلّم لهم "الدستور" ونواب الأمّة سلطة القضاء؟. القضاة، اكثر من ثلثهم من فسدة منظومة المخلوع، والكثير منهم اصبح بعد الثورة من دعائم الثورة المضادّة. والكثير منهم كان من معتصمي باردو لإسقاط الحكومة، مع انّ القانون يحجّر على القضاة ممارسة السياسة، ومنهم من كان سندا لكمال لطيّف، رمز الثمرة المضادّة وقائدها، وساهم بكل ما لديه من سلطة قانونية لحمايته، وهو المتهم بالإخلال بأمن الدولة التونسيّة، ناهيك على انّ جلّهم كان قد ساهم في بناء دكتاتورية المخلوع منذ بداية التسعينات، بإصدار احكام جائرة وهميّة والمساهمة في سجن وتشريد اكثر من 30 الف مواطن تونسي دون احتساب الضحايا من اهاليهم. هؤلاء القضاة، بكلّ الشبهات التي تحوم حولهم، ويعرفها القاصي والداني، يقودون اضرابات متتالية، مخيفة ومؤلمة في حق المواطنين، قال عنها وزير العدل بانّها غير قانونيّة، وذلك لفرض استقلاليّة القضاء، وقد ساندهم في ذلك بالتحديد حزب نداء تونس، وهو التجمّع الدستوري في نسخة ما بعد الثورة، والجبهة الشعبية ومن والاهم. والهدف من ذلك هو خلق "دولة القضاة" والاحتماء بها. دولة القضاة هذه، ستكون دار الأمان لكلّ من خرج عن طوع الثورة ومسارها، ولكل من كان في منظومة الفساد منظّرا او فاعلا، فهي "دولة" لمن ساهم في تدجين الشعب التونسي وإذلاله على مدى يفوق 23 سنة، وهي التي ستحمي كلّ المورّطين، ما قبل الثورة وما بعدها. وهي الدولة التي ستستعمل القانون لمعاقبة كل الأعداء والمخالفين، وكلّ الذين يقفون الى جانب الثورة. المعنى، ان القضاة يستميتون في القتال من اجل دولتهم المستقلّة، التي ستؤسّس دون انتخابات ودون رقابة، والتي ستكون لهم الحصن الحصين الذي سيحميهم من المحاسبة، والذي سيفتح لهم الباب للانقضاض على الجمهورية الحرّة التي يحلم بها التونسيون. انّ استقلال القضاء أهمّ ما يجب اهداءه للشعب التونسي، لكن ان يسلّم القضاء لقضاة خارجين على السرب، ولم تفتح ملفاتهم بعد، قضاة ينتمون امّا لنداء تونس او للجبهة الشعبية، سيعتبر جريمة في حقّ هذا الشعب.