رغم معرفتنا بأن للسياسة وجه «القبيح"، واقتناعنا بأن الأخلاق والمبادئ والقيم.. كلها مفاهيم نسبية في مجال العلوم السياسية، ورغم إدراكنا أن السياسة عالم "البراغماتية" والواقعية بامتياز… لكن كل هذا لم يكن كافيا لإقناعنا ببعض المواقف السياسية "لجبه الإنقاذ" التونسية، ولم يمكنا من تفكيك "شيفرة" الأداء السياسي لمكوناتها، وخاصة فيما يتعلق بالمواقف تجاه مختلف الأحداث الإقليمية وما يجري في بلدان الربيع العربي.. في البداية، وقبل الحديث عن مواقف جبهة الإنقاذ تجاه مجريات الأحداث في دول الربيع العربي.. لابدّ من التذكير ولو بشكل موجز بالتركيبة السياسية و الحزبية لهذه الجبهة.. جبهة الإنقاذ هي "تجمع" سياسي بين أحزاب يسارية وقومية وليبرالية إضافة إلى بعض قوى النظام القديم في تونس. تكونت الجبهة بعد انتخابات الثالث والعشرين من أكتوبر، التي أنتجت أغلبية نسبية للإسلاميين…التحالف أو "التجمع" المسمّى "بجبهة الإنقاذ" يؤكد عديد المتابعين للشأن التونسي أنّه ولد نتيجة للتلاقي الموضوعي والفكري بين مجموعة من الأطياف السياسية التي تعارض الإسلاميين سياسيا و فكريا.. في حين يؤكد مؤسسو الجبهة أن اسمها يعبر عن دواعي نشأتها ، وهي أساسا إنقاذ البلاد من الأزمة التي وصلت إليها نتيجة "فشل" تجربة الترويكا (حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل من أجل العمل و الحريات) في الحكم.. في هذا المقال، لن نخوض في الأداء السياسي للجبهة المتعلق بالشأن الداخلي التونسي، بقدر ما سنحاول استقراء المواقف السياسية لهذه الجبهة وبعض مكوناتها وتفاعلها مع مختلف القضايا الإقليمية والعربية ، وخاصة تلك المتعلقة بالأوضاع في بعض دول الربيع العربي… أولى المواقف السياسية المثيرة للجدل والتي تبنتها جبهة الإنقاذ، هو الموقف من الثورة السورية و الحرب التي يشنها النظام السوري ضد شعبه. جبهة الإنقاذ وخاصة المكونات القومية واليسارية داخلها، لم تخفي دعمها لبشار الأسد والترويج "للمؤامرة الدولية" على "رمز الممانعة"، الذي لم يطلق رصاصة واحدة تجاه إسرائيل منذ عقود… ولم يتحرك شبرا واحدا في الجولان المحتل..لكنه حرك آلياته العسكرية ضد شعبه، و"أبدع" في التنكيل بأبناء شعبه وترويع السوريين وقصفهم بطائرات "الميغ" الروسية والمدفعية ، مع فرض حصار وحشي على مدن بأكملها.. لا لشيء، فقط لأن سكانها طالبوا بالحرية و الكرامة. و لعل "أبشع" مثال على ما نقول..الحصار الوحشي الذي يفرضه النظام السوري على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين الذي تسبب في قتل المئات من الأطفال جوعا… المدافعون عن "لقمة الزوالي" في تونس لم تحركهم مشاهد الموت بالجوع في اليرموك ولم تمنعهم من إعلان مساندتهم للنظام السوري. مساندة النظام السوري من قبل أحزاب جبهة الإنقاذ اتخذت عدّة أشكال. منها، الدعم السياسي والشحن الإعلامي لتشويه الثورة السورية، ونذكر هنا مصطلح "جهاد النكاح" الذي ابتدعته بعض الجهات المحسوبة على "جبهة الإنقاذ"، وهو مصطلح ليس له أي سند ديني شرعي ولا حتى اسطلاحي بل هو "منتج" قومي- يساري سوّق لضرب الثورة السورية في العمق ووقف كل أشكال الدعم عنها، بالإضافة إلى محاولات تحريك الشارع التونسي في أكثر من مناسبة لمساندة الأسد، والحملات الإعلامية المتكررة ضد حكومات الترويكا ورئيس الجمهورية المنصف المرزوقي على خلفية الموقف الرسمي التونسي الداعم للشعب السوري..وخاصة قرار قطع العلاقات مع سوريا. لكن أهم الخطوات المساندة للنظام السوري حسب رأينا، هو ما قام به إعلاميّ مقرّب من النظام السوري حسب بعض التقارير الإعلامية – حيث تزعم وفدا تونسيا يتكون من بعض الوجوه الإعلامية والسياسية قام بزيارة إلى دمشق بدعوى محاولة استرجاع السجناء التونسيين من سورية لكن الزيارة أخفت على ما يبدو أهدافا أخرى، لعل أبرزها فك الحصار السياسي والدبلوماسي والعزلة الدولية المفروضة على دمشق.. فالرحلة "الخيرية" رافقتها حملات دعائية لشحن التونسيين ضد شرعية الموقف التونسي من النظام السوري والترويج لانعكاساته "الكارثية" على الجالية التونسية في سوريا. ولم نسمع منذ تلك الدعاية الضخمة إلى اليوم عن إفراج السلطات السورية على تونسي واحد. موقف سياسي آخر يتطلب الوقوف عنده، هو موقف جبهة الإنقاذ من الانقلاب العسكري في مصر. الجبهة أعلنت صراحة من خلال تصريحات قياداتها في عديد المناسبات عن دعمها لما قام به السيسي.. ومساندة "ثورة الست ساعات"، التي ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء مصر.. الجبهة لم تقف حد إعلان تزكيتها لما قام السيسي واستماتتها في نفي صفة الانقلاب على ما جرى في مصر – رغم شبه الإجماع الدولي على إن ما وقع انقلاب دموي – بل قامت بفتح قنوات التواصل مع سلطات الانقلاب في مصر وأرسلت الوفود إلى القاهرة وعلى رأسها القيادي بحزب نداء تونس وأحد مكونات جبهة الإنقاذ محسن مرزوق… زيارة مرزوق لمصر رأى فيها بعض المحللين السياسيين محاولة لإضفاء شرعية على "النظام الجديد" بعد عزلته الدولية إثر الانقلاب.. موقف الجبهة الداعم لانقلاب السيسي عبر عنه أيضا رئيس حزب نداء تونس الباجي قايد السبسي في أشهر الفعاليات الاقتصادية والسياسية الدولية.. حيث أعلن السبسي في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي عن مساندته للإنقلاب في مصر… بعض المحللين السياسيين يرجعون موقف "جبهة الإنقاذ" مما يجري في مصر إلى الاختلاف الإيديولوجي لمكوناتها مع الرئيس المصري المعزول محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين وارتباطهم الفكري بمنافسهم الأول في تونس.. لكن هذا لا يفسر في تقديرنا الدعم المعلن لانقلاب عسكري.. ولا يبرر مساندة القتل والترهيب الذي مارسه السيسي ولا يزال… الموقف السياسي المثير للجدل لجبهة الإنقاذ تجاه الثورات بالبلدان العربية برز أيضا من خلال تفاعل مكونات الجبهة مع الوضع في ليبيا. فالأحزاب المنضوية تحت "جبهة الإنقاذ" والمنظومة الإعلامية المرتبطة بها بشكل أو بآخر لم تدخر جهدا في التسويق "للكارثة" الليبية.. والترويج "للخطر" الليبي "الداهم" على تونس.. وتضخيم بعض الأحداث المعزولة وقضايا حق العام التي كان ضحيتها تونسيون في ليبيا.. المتابع للشأن الليبي لا يمكنه إنكار حالة الفوضى و"اللا استقرار" الأمني والسياسي الذي تعيشه الشقيقة ليبيا.. وضع تأكد عديد المصادر الليبية أن المتسبب الرئيسي فيه هو خلايا النظام السابق وبعض أنصار القذافي، إضافة إلى التدخل الخارجي.. لكن التعاطي السياسي ومواقف "جبهة الإنقاذ" تجاه الوضع في ليبيا لا يقف عند التفاعل الموضوعي مع الأحداث هناك، بل يذهب حد التحامل على الثورة الليبية… والتسويق للكارثة العارمة التي ستدمر المنطقة… كما شهدنا محاولات لبث الفتنة والتفرقة بين الشعبين التونسي والليبي كانت ورائها أطرافها محسوبة على الجبهة. في الأخير تبقى عديد التساؤلات مطروحة حول المواقف السياسية "لجبهة لإنقاذ" في تونس تجاه ثورات الربيع العربي، ويبقى السؤال قائما بخصوص مدى ملائمة هذه المواقف للمرجعيات الفكرية "المعلنة" لمختلف مكونات الجبهة… فالمكوّن "اليساري" و"القومي" معروف بتبنيه لمقولات "نصرة للمظلومين" ودعم كل القضايا العادلة في العالم، وهو ما يتناقض مع موقفه من نظام الأسد في سوريا والانقلاب العسكري في مصر.. كما أن المكونات الليبرالية للجبهة تناقض عبر مساندتها للانقلاب العسكري وما تبعه من جرائم وتضييق على الحريات كل مقولاتها المنادية بمدنية الدولة و المدافعة عن الحريات. مراد الشارني