احتفل العالم بنسائه ورجاله باليوم العالمي للمرأة 8 مارس وتابعتُ في بلادنا تونس نوعين من الاحتفالات ، الصّنف الأوّل ركّز على التّحررمن " القيود البالية " حسب اعتقاده حيث سعى إلى تجريدها من ثيابها ومن أخلاقها وصنف ثان سعى إلى توازن بين الحرص على الحقوق والحفاظ على الفضيلة …ودارت أسئلة في ذهني فهل ترتبط الفضيلة باللّباس ؟ و أيّة علاقة بين الشّكل والمضمون بالنّسبة للمرأة ؟ وماهو سبب حرص الصّنف الأول ( الحداثة المتوحشة )على أن تتجرّد المرأة من لباسها حتّى يعتبرها حرّة ويُمجّدها ؟ ولماذا يحرص الصنف الأوّل ( الحداثة المتوحشة ) على أن يجعل المرأة مُجرّدة من صفات انسانية كفيلة بأن تسمو بها إلى " الكمال الإنساني " ؟… —— عادت بي الذاكرة الى ايام الطفولة ، أثناء مصيف للتلاميذ المتفوقين لولاية القيروان تمّ تنظيمه في منطقة الفالاز الرّائعة بالمنستير …ذات مساء حزين في ذلك الصيف الجميل… كنا نتفسّح في شاطئ سيدي منصور بالمنستير الجميلة السّاحرة … مع المنشطين والمرافقين و نحن أطفال صغار…خطرت ببالي لي فكرة وهي مجاراة زملائي و أصدقائي أن أشتري بعض المأكولات المعروضة على عربات الباعة المتجولين… كان طعم تلك المأكولات غير معتاد بالنسبة لي و لكني أردت أن أقلّد رفاقي… —— ما إن خلدنا للنّوم حتى شقت الآلام بطني… حملوني إلى المستشفى، قام الطبيب بالإسعافات الأولية…. ثم إستقرّ الرأي على إبقائي تحت المراقبة و العناية فحالة التّسمّم مؤكّدة…وضعوني في غرفة … جاءت الممرّضة وهي تلبس لباسا صيفيا فوقه مئزر العمل الأبيض …سألتني ماذا أكلت في العشاء … وماذا أكلت في اللّمجة … ثم انضم اليها زميلها الآخر … حرّرا بعض الأسطرفي ملف المريض ثم غابا عن الأنظار … **** أرخى الليل سدوله كما يقول المنفلوطي.. و لم تأت أية ممرضة أو طبيب لتفحّص الفتى القادم من أعماق الريف.. كانت الآلام تمزّق أحشائي طوال الّلّيل … ومن خلال اطلالة على الخارج رايت شعاع الفجر قادما من خلال النوافذ…. أطل الصبح ….تحركت قليلا … تمشّيت في الممرّات… ثم عُدت إلى سريري…. إلى أن حانت ساعة الفحص الدّوري في التاسعة صباحا …، جاءت الطبيبة المكلّفة بالقسم … تفحّصت الملف… سألتني بفرنسية باريسية عن معاناتي و آلامي…. كانت تلبس تبانا قصيرا فالفصل صيف …كانت " سافرة " … ولكن ليست عارية الوجه فحسب بل كانت كاشفة للصّدر و السّيقان و الزّنود….ولم تكن تلبس مئزر العمل … سألتِ الممرّض المرافق لها : - لماذا لم تقوموا بالواجب؟ - أين متابعة الوضع الصحي للفتى الليلة البارحة ؟ - أين متابعة قيس حرارة الجسم ؟ - أين التحاليل؟ - أين طبيب المداومة الليلي؟ - لماذا تركتم الفتى بدون علاج إلى الآن ؟ - ……… إنحنت عليّ… مسحت على جبيني…واستني … سألت عن اسمي لقبي و قريتي ….و عادات و تقاليد أهل تلك الجهات وبذلك جعلت من نفسها شخصا قريبا للمريض ومُحبّبا إليه .. بدتْ لي ملاكا و ديعا…. تجمّع فيه الحنان و الرّقة و الطّيبة… كلّفتِ الطّبيبة الممرضين بأن يقوموا بإعداد العلاج المتأكّد…..وواصلت مراقبة بعض المرضى لتعود وتأخذ كرسيا بجانب سريري ولم تبرح مكانها… لأنها لاحظت أنّهم لم يقوموا بذلك بالأمس …وحرصت على أن تتأكّد بأم عينها من جرعات الدواء ومن حقن المضاد الحيوي . بدأت حديثها معي بالسّؤال عن الدّراسة وظروفها والمعلمين ومن أين جاؤوا إلى قريتنا ثم توغّلت تدريجيا للسّؤال عمّا درست في العلوم واختبرتْ معلوماتي حول التّلقيح والوقاية والأمراض المعدية … متحدثة بالفرنسية طالبة أن أجيبها بالفرنسية …وطلبت منّي أن أبيّن لها ما حدث بالضّبط إن كان ذلك يعود إلى " جرثومة " أم إلى " فيروس " ؟ وساعدتني تدريجيا بالعودة إلى دروس علم الأشياء التي تلقّيناها …. فأسرّها أن أخاطبها بلسان فرنسي مبين وأثنتْ عليّ … وقالت لي إن شاء الله تكبر وتتعمّق في هذه المعارف وتكون إطارا ساميا …وأوصتني بالانتباه إلى المأكولات المعروضة تحت أشعّة الشّمس واجتناب شرائها وأكلها . لم تغادرني الطبيبة الفرنسية اللّسان و التّونسية لحما ودما وشعورا وأخلاقا إلا بعد أن اطمأنت إلى أنّ الممرضين اتخذوا ما يلزم لعلاجي…. لقد أحسست بها امرأة فاضلة وطبيبة ماهرة على درجة عالية من الإنسانية…وكان أن تيقنت من أن المهم في الإنسان أولا معدنه كيف هو ؟ لقد كانت الطبيبة " المتفتحة " امرأة فاضلة من ذلك الزمان البكر لدولة الاستقلال ، وكانت قيم الفضيلة متأصلة فيها بما تلقّت من تربية عائلية ومدرسية ومهنية …واكتشفتُ آنذاك أن نبل الأخلاق لا يرتبط باللباس حتما… فلباس هذا الطبييبة مختلف عن لباس النّساء في قريتي الصغيرة ولكن نبل أخلاقها شبيه بنبل أخلاق نساء قريتي و وظهرت لي أنّ لها صفات ومشاعرالأمّهات والخالات والعمّات هناك… ***** جاءت ثورة الحرية والكرامة في تونس 2011 …وخطب الرئيس محمد المنصف المرزوقي في المجلس الوطني التّأسيسي متبنيا الدّفاع عن حرية المرأة التونسية سواء كنّ " سافرات أو متحجبات أو منقّبات" … وثارت ثائرة بعض الجمعيات والشخصيات لتحتج على عبارة " السافرات " اعتقادا منهم أنّها شتيمة ، ثم تراجعوا لمّا فهموا أنّها تعني لغة " كشف الوجه " واصطلاحا "عدم لبس الحجاب "… ***** إنّ المرأة التوّنسية كالرّجل التونسي أهم ما فيها قيم الفضيلة التي تحملها … سواء أكانت سافرة أو محجّبة أو منقّبة … فهي مثل الرّجل التونسي تقاس بعلمها وأدبها وقيامها بوظائفها طبق مقتضيات القانون والأخلاق والقيم الإنسانية…فهل كانت كذلك بعد الثّورة ؟ لكلّ شخص جوابه حسب ما يلاحظه في المجتمع … لكنّني سأشير إلى نقطة وحيدة في المجال السياسي وهي أن المرأة التونسية تستخدم كأداة حسب الشكل لا حسب المضمون وكل حزب منحاز إلى شكله حتى وإن كان المضمون "برقا خلّبا " لا يوحي بالمطر … لقد لاحظت أيضا استخدام المرأة التونسية كأداة في التجاذب السياسي معتبرين "الشكل " مشروعا مجتمعيا في حين أن المرأة التونسية ككل إنسان هي ثمينة بما تمتلك وبما تختزن من الفضيلة . ***** لاحظت اصرارا من تحالف القوى المتناقضة المتكوّنة من اليسار الشيوعي واليمين الليبرالي على محاربة الفضيلة واعتبار الانحراف الأخلاقي معيارا لحرية المرأة بهدف القطع مع المنظومة التقليدية حسب تصوّرهم … فهم يحرصون على العراء التام ويحتفون بمنظمة " فيمن "ويعتبرونها رمزا للأنوثة لا شكلا من الوقاحة والوضاعة …وهم يعتبرون المرأة حرّة اذا تخلّت عن الحياء وتصرّفت تصرّف " الجهلوت " وتكلّمت صفاقة كلام " المثقفوت "…وهم يعتبرون المرأة حرّة اذا أساءت لأهلها من خلال علاقات غير شرعية…. وهم يعتبرون المرأة حرّة إذا أضرّت بأسرتها بالصّدام غير المبرّرمع زوجها وأبنائها … وباختصار فهم لا يعتبرون المرأة حرّة حقيقة إلاّ إذا تعرّت وتمرّدت وقطعت صلتها بالله وبالفضيلة وبالأسرة…إنّ تحالف القوى من اليسار الشيوعي واليمين الليبرالي تحت عنوان " الحداثة " هم استمرار للثقافة النوفمبرية التي رسّخت من خلال دعايتها المغرضة لتجريم " الفضيلة " وتزيين " الرذيلة "لدى المرأة كما لدى الرّجل …بل ان التيار الذي يسمّي نفسه ب"الحداثي " تحوّل إلى تيار يعمل على تدمير الذات الانسانية من خلال محاولة كسر قوانين الطبيعة وإالغاء الخصوصيات البيولوجية للجنسيْن وتعويضها بالنّوع أو الجندرلتكون المرأة كالرّجل تماما عكس ما خلق الله وعكس الطبيعة الانسانية … فصرنا نرى تزيينا للرذائل كالانحراف الاخلاقي وتعاطي المخدرات وسخرية من الفضيلة واعتبارها " تخلّفا " وتراهم يسهبون في القول عن الحرية والعقلانية وحقوق الانسان وهم يقصدون " محاربة الفضيلة " لأن ذلك يضمن لهم " السيادة على البلاد "… فما الذي بينهم بين حرية التفكير وحرية المعتقد وحرية اللباس من جهة وبين كرامة الانسان ونبل الأخلاق واستقامة السّلوك ؟ لماذا لا تجتمع عندهم الفضيلة وحرية المرأة ؟ إنّ العقل هوافساح المجال للفكر الحر وعقل الغرائر والشهوات وقيدها وفق المسموح والممنوح قانونا وعرفا اي الحلال والحرام دينا وأخلاقا . إنّه حرب " الشيوعية" ضد الدّين عامة تلتقي مضمونيا مع تطرّف " العلمانية " ضد قيم الانسانية وتحويل الكائنات البشرية إلى بضائع وأشياء وأرقام… ***** كما لاحظت أن التيّار اليميني السّلفي المخترق من أجهزة المخابرات الأجنبية ومن قوى النظام القديم يتبنّى أطروحات مناقضة لمنطق الحرية الانسانية حينما يُنكر حقوق المرأة المدنية والسياسية ويمنح الشيوعيين إشارة التّهجم على " الاسلام " والخلط المتعمّد بين التّقاليد الموروثة الظّالمة للمرأة وبين " قيم الاسلام الخالدة " المتمثلة في العدل والحق والفضيلة . ***** لقد انشرحت باحتفال نساء المجلس الوطني التاسيسي باليوم العالمي للمرأة … وانشرحت أكثر باحتفالهن بأول امرأة نائبة في البرلمان التونسي وهي المرحومة " راضية الحدّاد" … وهي لفتة تستحق التقدير لا سيما وان راضية الحداد هي اول رئيسة للاتحاد القومي النسائي التونسي وهي من الرموز النسائية الدستورية المرتبطة بالعهد البورقيبي … على أنّه أعيب على نساء التّيار الاسلامي إغفالهم لذكر بورقيبة عند الحديث عن " مكاسب المرأة التونسية " أو الحديث عن " مجلة الاحوال الشخصية " … أعلم أن تلك التشريعات الثورية في وقتها هي من إنتاج مشائخ المدرسة الزيتونية ولكن ما كان لها أن ترى النّور لولا الإرادة السّياسية ممثّلة في الزّعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله ورجال دولة الاستقلال … أدرك جيدا مآخذ التّيار الإسلامي على الزعيم بورقيبة فقد أودع قادته السجن كما بورقيبة فهم لم يرسّخ نظاما ديمقراطيا واحتكر هو وحزبه السلطة …لكن يجب وضع حدّ لهذا التجاهل الواضح لمصادر ما يتم الاحتفال به من مكاسب للمراة التونسية … إن التّيارالاسلامي الوسطي المعتدل أراه أقرب لاحترام حقوق المرأة التّونسية من غيره – حسب اعتقادي – لأنّه يوازن بين الحقوق والواجبات ويستفيد من قيم الاسلام ومن منظومة حقوق الانسان ولإنه يدعم حرية المرأة ويعمل على الحفاظ عل كيان الأسرة باعتبارها خلية أساسية في المجتمع …فلباس المرأة السّاتر ( الحجاب ) – باختيارها – هو إكرام لها وزينة … ونبل أخلاقها شرف لها … وحسن أدبها مفخرة لأهلها … وزادها العلمي كنز لها ولمجتمعها …إنّها المرأة التونسية التي تسعى للفضيلة … إنّها بذلك تحوز رضى النّاس ورضى الخالق …فقد فال رسول الله صلى الله عليه وسلم " النساء شقائق الرجال ، ما أكرمهنّ إلاّ كريم وما أهانهنّ إلاّ لئيم " . اسماعيل بوسروال – منتدى المعرفة – سوسة