خاب الصحفي إذا ما هو قاطع السلطة (سياسية أو اقتصادية أو ثقافية) على الأقل لأنها مصدر للخبر، وصانعة للقرار، وخاب أكثر إذا ما هو جعل من خبزه لسانا لها، وقلمه ملكا يعود إليها. في الحالة الأولى ينأى فيكون ما يقوله مثل القعقعة، وفي الحالة الثانية يتماهى ليأتي الوليد منقوصا، من عضو ما، من رائحة ما، من صورة ما. وفي حالة «الجزيرة» كانت السلطة من الذكاء بحيث بعثت قناة وتركت لها فرصة أن تعبّر عن كلّ ما يناقض الخطاب الرسمي وارست وسيلة إعلام قطعت مع كلّ السائد عربيا، ونجحت أن تجد حتى من يمتلكون احترازات ضدها، في حاجة ماسة إلى مشاهدتها، وفي هذا بلا شك قمّة النجاح. وما هذه الدعوة لخصخصة «الجزيرة»، إلا التفافا على الحرية ذاتها، فيما الغاية من دعوة الخصخصة ظاهريا هي انقاذها من براثن سلطة. وإذا ما تمّ خصخصة «الجزيرة»، فإن الذين سيحدّدون سياساتها وتوجهاتها هم الملاّك الجدد، وليس هناك أدنى شك أن هؤلاء سيكونون من أولئك الذين صدرت إليهم تعليمات من الطرف القوي الضاغط الآن ليشتروا حصص القناة الشهيرة، ومن الذين لن ينتظرو ضغوطات، بل من ذوي الألباب الذين يفهمون بالإشارة وحدها. ولسائل أن يسأل، وهل ان الضغط على السلطة التي تقف وراء «الجزيرة» أمر عسير؟ ويأتي الجواب سريعا، بالتأكيد لا. إلا نها سلطة مزهوّة بالانجاز الذي حققته وهو «الجزيرة»، فهي مازالت عندها غالية وثمينة. وبسبب ذلك الزهو هي لا تنصاع مائة بالمائة، فتضغط أحيانا على القناة في ما يشبه اللّمس الخفيف، ثم سريعا ما تغضّ النظر عن الانفلاتات. ثم ان تهديد العاملين ب»الجزيرة» سيكون أيسر إذ هي انتقلت إلى الخواص لأسباب معروفة. وإذن فإن الذي نراه الآن، هو طلب موت «الجزيرة» مقابل حياة «الحرّة». هذا هو ما نلمحه خصوصا بعد ان كثّفت «الحرّة» من انتقادها لوسائل الاعلام العربية الذي تزامن مع ضغوطات الادارة الأمريكية وتنديدها وصياحها ضدّ القناة التي تبثّ من قطر. وتهمة الموت جاهزة وحاضرة. انتقال «الجزيرة» من قناة اخبارية محايدة إلى قناة تعبوية تحرّض على أمريكا. وهي كما هو ظاهر تهمة مطّاطة لا يحق لأي طرف من الأساس رميها حتى وإن كانت التهمة حقيقية، فقنوات أمريكية كثيرة تحرّض على العرب ولا أحد يحاسبها، لأن تلك هي قواعد حرية التعبير. ذلك زعمهم كلّ ما اشتكى عربي، هذا إذا كان يوجد من يشتكي أصلا، وذلك عملهم صباح مساء وهو الذي لا يرمي في الأخير إلا إلى المسك بقواعد اللّعبة الاعلامية الثقافية، بشكل يجعل الريادة دائما لديهم، والسّبق عندهم، وتشكيل الرأي العام كما يخطّطون، وكما تقول مصالحهم، وتدعو إليه ضمانات تلك المصالح. وكل الباقي مجرد تفاصيل، والتفافات حول جوهر الموضوع الذي يجب ان يبقى سرا. لكن هل بقي في هذا العصر من أسرار؟