إن الاهتمام بإشكالية القيم والسلوكيات الاجتماعية، غدا المجال الدراسي الذي يشد اليه المختصين في جميع العلوم الانسانية والاجتماعية والاقتصادية السياسية، محليا وعالميا على حد السواء. خاصة اذا ما نزل هذا الاهتمام والتوجه في الاطار الجديد للنشاط الاقتصادي والاجتماعي «الاقتصاد المعولم» و»المجتمع الانساني الكوني» وما يتطلبانه من تأهيل للعنصر البشري، هذا التأهيل الذي يرتكز أساسا على عامل التداخل بين المنظومة القيمية والابعاد الثقافية الاجتماعية السلوكية، من جهة، ومن جهة أخرى بين النشاط الاقتصادي (ببعديه الانتاجي والاستهلاكي). وبهذه الواجهة يتأكد الوجه الاجتماعي للقيم لأي مشروع تنموي حضاري الذي يتمظهر في صنع الانسان (المواطن الفاعل اقتصاديا واجتماعيا في المشروع المجتمعي الجديد عموما، والخطط التنموية لجميع أنواعها ومجالاتها. إن حضور الخلفية الاجتماعية والثقافية للتنمية الجديدة يؤكد الضرورة الملحة لتدخل القيم الثقافية والاجتماعية لبلورة الارضية العلائقية الجديدة داخل فضاءات الفعل الاجتماعي والاقتصادي من جهة، ومن جهة أخرى لاعادة التوازن بين هياكل ومنظمات الانتاج الاقتصادي والثقافي الاجتماعي والمجتمع المدني، خاصة إذا ما انطلقنا أن السوق في حد ذاتها تمثل ذلك الفضاء الاجتماعي للقيم الجديدة، الذي تتم فيه وعلى أساسه عملية الانتاج الاقتصادي كما يقول فرنسوا بيرو» السوق يستند الى الادوار التي ينيطها المجتمع بالذين يلعبون فيه أدوارهم» (الكتاب: فلسفة لتنمية جديدة ص30). فالثقافة والقيم السلوكية ليست الدخول الى عالم الاشياء والاسراع في استعمالها، بل انهما، الدخول الى عالم الافكار وإنتاجها، اليوم. فالقيم والثقافة هما «الذكاء الاجتماعي» بكل خاصياته، الذي يسمح بالانخراط والتكيف مع «العولمة». فهكذا يتمثل دور القيم الاجتماعي والاقتصادي في الحد من الضغوط المرتبطة بالتوزيع الاجتماعي للادوار داخل هذا «المجتمع والاقتصاد المعولم» الذي بدوره يؤثر في أشكال العلاقات الخاصة والعامة التي يقيمها الانسان مع محيطه. واستنادا الى هذه المنطلقات الاقتصادية الاجتماعية أصبح المجتمع الانساني في حاجة الى «إعادة تشكيل منظومة قيم تتماشى وطبيعة التحولات، والقوى المهيمنة عالميا والتحولات الجيوسياسية ولابد من تغيير المرجعيات السلوكية، واستقصاء منظومة قيم جديدة تتناغم مع نوعية التبادلات الاقتصادية والتجارية. ولكن لدراسة علاقات القيم وعملية التأهيل الاقتصادي والتفعيل الاجتماعي في ظل العولمة، لابد من النظر في الاسس الجديدة لشبكة القيم فحسب التقرير الاجتماعي للجنة شؤون المجتمع لان تلك الاسس يمكن حصرها في المبادئ التالية: * خلق أرضية سلوكية وحقوقية جديدة تشكل أرضية لمنظومة قيم جديدة تحدد هوية الانسان الجديد (الانسان الكوني) الثقافة الكونية، والمجتمع القرية. * تعميق الوعي بالمواطنة في بعدها الانساني الكوني. * المراهنة على الانسان كأداة لكل مشاريع التحول والتغيّر. * دعم الخلفية الاجتماعية الثقافية لكل المشاريع التنموية الاقتصادية، حتى يكون أرضية انطلاق لانجاز البعد المجتمعي للتنمية الشاملة. * دفع الهياكل والمنظمات الاجتماعية غير الحكومية للمساهمة في تشكيل منظومة القيم الجديدة. * التخلص من إرث القيم التي كانت فيها تمثل «الدولة الكافلة» لصالح القيم التي تشكل المجتمع المتضامن المتكافل. ولعل هذه المبادئ يمكن أن تنير الاهداف التي يصبو المشروع القيمي الثقافي تحقيقها، والتي يمكن تلخيصها في مساءلة مركزية. «هل نحن في حاجة الى تغيير القيم أم تعديل منظومتها وهل يمكن أن تقوم القيم العامل الحاسم في تحقيق رهانات التنمية والتأهيل والدخول في العولمة؟ أم نحن في حاجة لتثبيت الخصوصية الثقافية والاجتماعية الى المحافظة على القيم السائدة؟ يعني «هل نحن أمام قيم التأهيل؟ أم تأهيل القيم؟ ففي كلتا الحالتين فالقيم يمكن أن تشكل تلك المعادلة الاجتماعية السلوكية التي تقوم عليها حالة التوازن بين مشروع تأهيل الاقتصاد والمحيط الاجتماعي. بصورة أخرى «هل أن القيم تؤثر حتما في تشكيل إعادة ترتيب العلاقة بين الاقتصاد والمحيط الاجتماعي؟ استنادا الى كل هذه التساؤلات والخلفية النظرية يمكن أن نعتبر القيم مؤشرا هاما للبرهنة على وجود صلة بين الاقتصاد والمحيط الثقافي الاجتماعي وبين المجتمع المحلي والمجتمع الكوني الذي حولنا وكلما ازداد اتصال المجتمع المحلي بهذا المحيط الكوني كلما تسارع نسق حركة تبدّل القيم. وتغيّر أشكال التبادل التعاوني بين الافراد والهياكل المكوّنة لنظام الاقتصاد الانتاجي، فيعدو النظام الاقتصادي الاطار المرجعي الآخر وجماعاته (بيل كلينتون: أمريكا الارهاب والعولمة). وهذا الشارع يؤثر مباشرة في مكانة الاقتصاد التجاري الاستهلاكي في نسيج المجتمع الجديد، فيصبح المحور الذي يدفع تطور المجتمع وعنصر تبدل للقيم، ويتغير مجال التفاخر والانتماء، من تفاخر بالقيم والثقافات الاصلية المحلية، الى تفاخر بالقيم والثقافات المهيمنة كونيا. وهكذا تتساوى المحافظة على المجتمع المحلي بالمحافظة على كينونة المجتمع الكوني والدولي الجديد ومع ازدياد هذا الاتصال والانفتاح بين المحلي والكوني يبرز التغير الاجتماعي للقيم والسلوكيات كأحد أوضح التغييرات والنتائج المباشرة لهذه الحركية القائمة بين منظومة القيم الاصلية والقيم والثقافة الكونية الجديدة. وتترافق هذه الحركية مع خانة التوافق بين الفرد ومحيطه الاجتماعي الجديد، مما يؤدي الى تقلص أو حتى انتفاء حالات الاضطراب التي قد تصيب الحياة اليومية للافراد والجماعات هذه الحالات التي كانت تسبب لهم داخل محيطهم الاجتماعي والاقتصادي القديم مشكلات علائقية وثقافية تحتاج الى أنماط علاجية مستعجلة وقد تتدخل هياكل الدولة لاعادة التوازن بين هذه الجماعات من جهة وبين المجتمع المتسارع التبدل من جهة أخرى، تثبيت التبدلات التي تشهدها المنظومة العالمية. قد يزيد هذا في تعقيد مسألة القيم، فالقيم السائدة في مثل هذه الوضعيات، هي قيم الحد من التناقضات والصدامات النفسية الاجتماعية، أما القيم التي تستند اليها الثقافة والاقتصاد الكونيين، تخضع الى قانون «صراع الاستراتيجيات» . ولهذا السبب لا يمكن الحديث في الفترة الحالية إلا على قيم «التفاوض» لغاية تحقيق درجة من الانسجام والتكيف مع ما يحدث من تبدلات سريعة ومتسارعة. * العنوان من اختيار المحرر * أستاذ علم اجتماع في الجامعة التونسية