شهدت منطقة الخليج العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ما يمكن اعتباره أكبر عملية تحوّل اجتماعي في تاريخها الحديث، وذلك على خلفية الثروة النفطية، التي تعاظمت مفاعيلها مع الطفرتين الأولى والثانية. ومع إطلالة الألفية الثالثة، بدت العولمة المحرك الأكثر دفعاَ لمسار التحوّل الاجتماعي في المنطقة، والأشد تأثيراً في مضامينه واتجاهاته. وقد تجلت للعولمة في الخليج خصوصيتها، من حيث تفاعلها مع معطى قيمي سابق عليها، أولدته إفرازات الثروة النفطية وتداعياتها العميقة الأثر. وعلى الرغم من ذلك، فإن ناتج التفاعل بين المتغيّرين لا يبدو حتى اليوم عصيّاً على آليات الضبط الكامنة في النسيج الاجتماعي والثقافي. ومن هنا، تبرز أهمية عدم المبالغة في قراءة الظاهرة، تماماً كما تتبدى ضرورة الابتعاد عن التبسيط وتسطيح الأمور، إذ أن ذلك من شأنه أخذ المنطقة بعيداً عن خياراتها. في خليجنا اليوم، لم يَعد للنخيل ظِلاله الوارفة، ولم تعد الأنظار تتجه إلى معانيها وجمالياتها، التي نظمها لنا ذات يوم ابن المقرب العيوني، وسار كثيرون على نهجه. بل إن الفتية في الخليج لم يَعد يسألون عن أصناف التمور إنما عن أصناف الشوكلاتة والحلويات المزخرفة. وبالتزامن مع الصعود الكبير في أسعار النفط، أصبح الخليج أكبر مستورد في العالم لألعاب الفيديو نسبة إلى عدد سكانه. والأمر ذاته تقريباً فيما يرتبط بسوق الأقراص المدمجة على أنواعها. كذلك، سجلت المنطقة أعلى نسبة استيراد للماكياج والعطور على صعيد عالمي. وفي مقاربتنا لقضية التحوّل الاجتماعي في الخليج، فإن ما يمكن قوله ابتداءً هو أن مثل هذه المقاربة تقتضي تحليل سلسلة طويلة من العوامل والمؤشرات، منها الصيرورة التاريخية للمجتمع الخليجي، وملامح بنيته الثقافية، وخصوصيته المكانية، وطبيعة العوامل الايكولوجية المؤثرة فيه، وأنماط العمل والإنتاج السائدة لديه، وحجم تفاعله مع العالم الخارجي، ومضامين واتجاهات هذا التفاعل. وبطبيعة الحال، فإن المقال لا يتسع للدخول في مقاربة على هذه الشاكلة، وهو في الأصل لم يستهدفها. وعوضاً عن هذا الخيار، الذي قد يبدو تنميطياً أكثر مما ينبغي، سوف يسعى المقال إلى تشخيص متغيّري النفط والعولمة (منظوراً إليها في سياق خليجي) وحدود التباين والتقاطع بينهما، فيما يرتبط بحجم واتجاه المفاعيل الاجتماعية والثقافية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه فيما يتعلق بالمتغير النفطي، تبدو ثمة حاجة للوقوف على بعض ملامح البيئة الاجتماعية السابقة لعصره في المنطقة. يُحدثنا التاريخ عن ارتباط وثيق ومتعاظم بين الإنسان الخليجي وبيئته الطبيعية، ولقد بدت مفاعيل هذا الارتباط واضحة على المزاج والسلوك، وحاضرة في العادات والتقاليد وأنماط العمل والإنتاج. لم يكن الاقتصاد في خليج ما قبل النفط اقتصاداً كفافياً، إذ لا يصمد مثل هذا القول أمام تحليل الديناميات التي حكمت حراك المهن التي سادت المنطقة، إن على مستوى المدخلات أو المخرجات. وفي الأصل، فإن مفهوم الاقتصاد الكفافي هو مفهوم إشكالي، استمد جذوره من التحليل الطبقي، إلا أن غالبية الكتابات التي تناولت تاريخ المنطقة قد ذهبت إلى تبنيه وإسقاطه على هذا التاريخ، على نحو تعسفي ومجحف. لقد شهدت المنطقة منذ قرون أنوعاً عديدة من التجارة الداخلية والبينية، منها تجارة الإبل والتمور والأسماك، وكان الجزء الأعظم منها يتم عبر نظام المقايضة. ومن جهته، شكل اللؤلؤ أبرز مواد التجارة الدولية للمنطقة، مع لحاظ أن هناك تجارة رائجة للأخشاب. والأهم من ذلك، فإن واحات شبه الجزيرة العربية الأربع قد شهدت منذ وقت مبكر أشكالاً مختلفة من الاستثمار الزراعي في حقول النخيل والخضروات وغيرها. وإن هذه النُسق الاقتصادية المعيشية قد عنت في التحليل الأخير علاقات اجتماعية متآخية ومؤتلفة، عضدّت البناء الاجتماعي وعززت من تماسكه، وهي قد دفعت يومها باتجاه غرس قيم العمل والإنتاج لدى الإنسان الخليجي. في مرحلة لاحقة، وعلى فترات متفاوتة من القرن العشرين، اكتشف النفط في الخليج ليبدأ معه عصر جديد. ومع هذا العصر، قل ارتباط الإنسان الخليجي بالطبيعة لكنه زاد اعتماداً عليها في الوقت نفسه. لقد بدت صناعة النفط الاستخراجية جاذبة لأعداد كبيرة من أهل الريف، أو لنقل أهل الهجر والواحات والقرى، إذ ليس في الخليج ريفاً بالمدلول المتعارف عليه. وفي الوقت نفسه بدت أحياءٌ و مدنٌ، داخلية وساحلية، وقد شيدت على عجل، أو توسعت بمعدلات متسارعة غيرت كامل ملامحها. وفي هذه الأثناء، أخذت العديد من الواحات والقرى تفقد قدرتها على الإنتاج الكفيل بتلبية احتياجات العاملين فيها، وعزز من ذلك المنافسة غير المتكافئة من قبل السلع التي أخذت تتدفق بكثافة مع استهلالة عصر النفط، لتصل ذروتها اعتباراً من الطفرة النفطية الأولى. ويمكن القول: إن التبدل السريع للنُسق الاقتصادية والمعيشية السائدة قد رمى بتداعياته الضاغطة على منظومة القيم الاجتماعية. وهذه تداعيات كان يجب التصدي مبكراً لتحليل أبعادها ووضع البرامج الكفيلة بتطويقها أو الحد منها. وما يمكن قوله أيضاً هو أن العديد من المقاربات التي تناولت هذا الأمر قد بدت جامحة في نزوعها الأيديولوجي، كما لجأت في الغالب إلى أدوات تحليل جامدة، بل اعتراها الصدى، تم اعتمادها في دراسات مماثلة جرت لمجتمعات متباينة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وهنا بدا أمامنا مشهد مكرر من الإسقاطات التعسفية، التي ابتعدت عن الحقيقة، وأساءت للمجتمع و شوهت صورته. إن تأثير النفط على المجتمع الخليجي يفترض دراسته ضمن أبعاده التقليدية الثلاثة، السوسيولوجية والثقافية والسياسية، على أن يُلحظ في هذه الأبعاد طبيعة الفضاء الحضاري الذي يؤطرها، وهذا الفضاء ليس التاريخ الاجتماعي إنما سياقه القيمي، وثمة فرق جوهري بين الأمرين. ومن هنا، جاءت ضرورة الارتكاز إلى أدوات منهجية وتحليلية تستوعب خصوصيات المجتمع الخليجي، وهو ما لم يحدث في الأعم الأغلب. من جهة أخرى، لا بد من التأكيد على حقيقة أن مؤثرات النفط على المجتمع الخليجي قد بدت متفاوتة في حجمها ومضمونها بين مقطع زمني وآخر، فهي في العام 1975ليست ذاتها في العام 1990، وهي تبدو اليوم في وضع ثالث. وهذا يعود إلى عدة متغيّرات تابعة أو مستقلة، منها واقع الاقتصاديات الوطنية ونسب التضخم فيها، وأوضاع سوق العمل، والاتجاهات الثقافية السائدة محلياً وإقليمياً، ودرجة نضوج وتبلور المجتمع المدني، والبيئة الأمنية الإقليمية، سيما الحروب والصراعات الكبرى، وحدود انعكاساتها الداخلية. وفي الخلاصة، فإنه بالقدر الذي تبدو فيه الفواعل الاجتماعية حية وناشطة بالقدر الذي يمكن فيه السيطرة على أية إفرازات سالبة للثروة النفطية على منظومة القيم السائدة. وفي بُعدٍ آخر، تبرز الموجة الجديدة للعولمة كمحرك دفع كبير لعملية التحوّل الاجتماعي في المنطقة، كما هو حالها في سائر أنحاء العالم. وبخلاف النفط، جاء تأثير العولمة على منظومة القيم الاجتماعية على نحو مباشر، ولم تتأخر في وضع تجلياتها على الفكر والسلوك والقناعات. ويمكن تشخيص أربعة تباينات بين النفط والعولمة فيما يرتبط بدورهما في عملية التحوّل الاجتماعي في الخليج، فقد كان النفط متغيّراً داخلياً تعزز بعامل خارجي، جسدته الشركات النفطية الكبرى، في حين كان العكس هو حال العولمة. ومن هنا بدت هذه الأخيرة أكثر حساسية في تماسها مع منظومة القيم الاجتماعية. ومن جهة أخرى، ارتبطت درجة التأثير الاجتماعي للنفط، على نحو ما، بالمدى المتاح من الثروة المالية، في حين بدت العولمة متحررة من هذا الأمر، ومن ثم تمكنت من النفاذ إلى كافة الفئات الاجتماعية. وعلى صعيد ثالث، تفاعل المتغيّر النفطي على نحو متدرج مع معطيات البيئة الخليجية مولّداً مظاهر اجتماعية جديدة، شكلت تالياً سمات خاصة بهذه البيئة، وباتت تُعرف بها، في حين أن العولمة وَلّدت مظاهر متماثلة على صعيد كوني. وفي بُعدٍ رابع، بدت التداعيات الاجتماعية للثروة النفطية في الخليج متركزة في جزء هام منها على طبيعة الأنماط المعيشية، ومستويات الإنفاق الشخصي والأسري، واقتناء الكماليات كجزء من ثقافة المظهرية والوجاهة. أما تداعيات العولمة فقد لامست بصفة أساسية خيارات اجتماعية تُعَد من صلب المُكَوِن الثقافي والفكري للفرد. وبعيداً عن عناصر التباين، فقد اختصرت العولمة، كما النفط، المسافات الشاسعة، ودفع كلٌ منهما باتجاه زيادة التداخل الاجتماعي والتفاعل الثقافي. وإذا كانت ثورة الاتصالات، التي ولدت الموجة الراهنة من العولمة، قد جعلت العالم بمثابة قرية كونية، فإن الثروة النفطية بدورها قد منحت فرص اقتناء، وربما تصنيع، الكثير من وسائل النقل والاتصال، وزادت على نحو كبير من رحلات الأفراد والأسر إلى خارج بلدانهم. كذلك، فإن كلاً من النفط والعولمة قد دفعا باتجاه زيادة فرص التنمية البشرية، الأول من حيث وفر المال وزاد الشعور بالحاجة إلى العلم ومواكبة التطور الصناعي، والثانية من حيث وضعت معالم القرية الكونية، وضاعفت من تمدد المؤسسات العلمية وتكنولوجيا التعليم. وختاماً، لا بد من التأكيد على أن عناصر المناعة في البناء الثقافي للمنطقة هي على درجة عالية من القوة والمتانة، ولا ريب في ذلك ولا جدال. وليس مطلوباً من أحد الدخول في صدام مع معطيات العولمة، فهذا تموضع أيديولوجي في غير محله، سباحة عكس التيار. إن المطلوب هو توجيه مسيرة التفاعل والارتباط مع هذه المعطيات على النحو الذي يخدم الناس في حياتهم اليومية، ويعزز من مقومات التنمية البشرية، ويدفع باتجاه خلق الطاقات والكفاءات المبدعة. وإن تزاوج العولمة والنفط يمكن أن يمنح هذه المنطقة مزيداً من الفرص متى وُجهت معادلته توجيهاً حسناً.