ما من شك ان الشعوب العربية التي بلغت في مجملها درجة عالية من النضج والتي اصبحت تطمح ان لم تكن تتطلع او تطالب بقدر متزايد من الحرية والديمقراطية وضمان حياة سياسية حقيقية تنشط فيها احزاب المعارضة بكل شفافية وكفاءة ويشعر فيها المواطن بكرامته وهيبته كعنصر فاعل في المجتمع الذي هو وسيلته وغايته في نفس الوقت لتحقيق الرقي والرفاهة وتوزيع عادل للخيرات الطبيعية ولثمار المشاريع التنموية، هذه الشعوب كلها دون استثناء، من المحيط الى الخليج ومن البحر الى النهر، تتطلع هذه الايام لما ستتمخض عنه قمة تونس للقادة العرب هذه القمة التي طالما انتظرناها وانتظرنا منها الكثير والتي تم تأجيلها لزيادة التباحث والتشاور وتعميق التفكير والمزيد من التنسيق بين مختلف البلدان العربية لضبط جدول اعمالها بكل دقة والسعي للخروج منها بمبادرات تاريخية. وان تونس المعروفة بتفتحها وكونها ارض اللقاءات العربية والحوار النزيه والصريح والبنّاء وبأنها بلد الحرية وحقوق الانسان في مضمونها الشامل، وحقوق المرأة على وجه التحديد كانت تسعى منذ البداية لطرح افكار ومقترحات بنّاءة وجدية وادراجها ضمن جدول اعمال القمة لقناعتها الراسخة وان الوقت قد حان لدخول الحداثة من الباب الكبير ولكي يضع العالم العربي كله بجناحيه الشرقي والغربي قطاره على سكة التقدم ولكي يسير بنسق منسجم ومتقارب فإذا كانت البلدان العربية تتوق الى الوحدة او على الاقل الى قدر عال من تنسيق المواقف وتوحيد البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية فلا مناص من تعديل عقارب ساعتها على نفس التوقيت، توقيت القرن الواحد والعشرين ولا بديل عن اقتناعها وإيمانها انه لم يعد اليوم مجال لتأجيل ادخال الديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية لحياتنا السياسية وتحديث مؤسساتنا بما يواكب العصر ويتماشى مع نسق العهد الحديث بعيدا عن فرض اي مناهج او اجندات من الخارج بل لضرورة ذاتية واقتناع طوعي فتسيير الامور في بعض البلدان لم يعد متماشيا مع العصر والوضع العالمي الراهن لم يعد يسمح باتباع سياسة النعامة. كما انه لم يعد هناك مجال بدون برلمانات واحزاب معارضة وبدون دساتير ولا تضمن فيها حقوق الانسان والحريات العامة وابسط حقوق المرأة والرفع من مستواها. وأصبح من أوكد الضروريات في الوقت الحاضر ان تمنح المرأة العربية في كل البلدان حقوقها كاملة في مجال الاحوال الشخصية والشغل والمشاركة الحقيقية في الحياة العامة واقتحام المؤسسات ومراكز اتخاذ القرار وكذلك الشباب الذي من حقه ان يحصل على الشغل وان يطمئن على مستقبله ومواطن شغله وان يضمن لنفسه الرعاية الصحية والمسكن اللائق والشيوخ اصبح من حقهم الحصول على اوضاع لائقة عند احالتهم على المعاش. والمواطن العربي بصفة عامة اصبح من حقه العيش الكريم والتمتع بحقوقه الاجتماعية والسياسية والفكرية. وذلك لا يمكن تحقيقه الا بوضع منهجية واضحة وطموحة لتطوير مؤسسة الجامعة العربية وتنسيق مواقف سائر البلدان العربية ازاء امهات القضايا والتحديات التي يواجهها العالم العربي لبناء اقتصاد قوي ومتكامل وانشاء مصارف لتمويل التنمية وتوحيد مناهج التعليم وتقريب العقليات. وقمة تونس سعت بكل عزم وجدية وموضوعية لوضع اللبنة الاولى وارساء حجر الاساس على هذا الطريق الصعب والشاق والطويل.. لكن غير المستحيل. اذ لا ننسى ان منظمة اقليمية صارت اليوم عملاقة وهي الاتحاد الاوروبي هذه المنظمة بدأت في اوائل الستينات بفكرة اقل من ذلك، بدأت بسوق اوروبية مشتركة وانتهت ببرلمان وبمجموعة أوروبية لتستقر على اتحاد اوروبي يضم خمسة وعشرين دولة تتكلم عديد اللغات وتدين بعدة معتقدات وكان بعضها ينتمي الى معكسر شرقي يناصب العداء البلدان الاوروبية الغربية وخرج جلها من حرب عالمية ابادت الملايين وحطمت البنى التحتية والقاعدة الاقتصادية وزرعت التفرقة والاحقاد بين شعوب القارة. أما نحن فكل شيء مبدئيا يجمع بيننا العقيدة واللغة ووحدة المصير... بقي فقط ان نشعر بحتمية تعاوننا وبضرورة تنسيق مواقفنا وتسخير كل طاقاتنا ومقدراتنا الطبيعية والمادية والبشرية لفرض وجودنا على الساحة العالمية كمجموعة حضارية واقتصادية ومالية وعسكرية فاعلة للدفاع عن مصالحنا وحقوقنا ومصيرنا المشترك وهنا تكمن اهمية قمة تونس التي وضعت اصبعها على المواضيع الحقيقية والحساسة واعطت اشارة الانطلاق للسير نحو الهدف الاستراتيجي الأعلى. وان حنكة الرئىس زين العابدين بن علي وحكمته السياسية ومثابرته واصراره على انجاح العمل العربي المشترك ونظرته الاستشرافية وحسه الاصلاحي الشامل جعلته يدرج عدة مواضيع حساسة على جدول اعمال القمة وفعلا نجح في اقرار هذه المواضيع البالغة الأهمية فخرجت عن قمة تونس قرارات وفرضيات نخص بالذكر منها: اولا: التوقيع بالاحرف الاولى من قبل وزراء الخارجية على وثيقة العهد والتضامن التي من شأنها ادخال الديمقراطية للعالم العربي وتطوير مؤسساته السياسية وتفعيل دور المجتمع المدني فيه مع مراعاة خصوصيات كل بلد عربي. ثانيا: مساندة الشعب الفلسطيني في كفاحه من اجل تحقيق مطالبه العادلة في دولة مستقلة وعاصمتها القدس والمطالبة بتوفير حماية دولية له. ثالثا: التأكيد على وحدة العراق واستقلاله وضرورة اجلاء القوات الاجنبية عنه وارجاع السيادة الكاملة لأبنائه بأسرع وقت ممكن. رابعا: الإعراب عن التضامن العربي مع سوريا الشقيقة ازاء العقوبات الامريكية والتأكيد على سيادة دولة الامارات العربية المتحدة على جزرها الثلاثة وتأكيد تضامن الدول العربية مع جمهورية السودان الشقيق والحرص على وحدته والحفاظ على سيادته. والشيء الذي يسترعى الانتباه على وجه الخصوص هو وثيقة العهد والتضامن التي تضع لبنة هامة على درب تحديث واصلاح الحياة السياسية في الوطن العربي مع اقرار آلية لمتابعة تنفيذ وتطبيق هذه القرارات من قبل سيادة الرئىس زين العابدين بن علي الذي عرف بجديته وحرصه على الاصلاح. وقد شهدت كل الوفود المشاركة والمراقبون من مختلف البلدان العربية ووسائل الصحافة العالمية على نجاح هذه القمة وانها سوف تكون تاريخية بالقرارات التي تمخضت عنها وخاصة بالحرص على متابعة تنفيذها وتطبيقها مما يقطع مع الماضي ويعيد الثقة للمواطنين العرب في نجاعة مؤسستهم المشتركة وفي جدوى قممهم... خاصة ان قمة تونس لم تكتف كما هو في السابق بالتنديد والمساندة وبإصدار قرارات تبقى بدون تنفيذ بل حرصت على التنفيذ وضمان التطبيق منذ اليوم الاول لصدور هذه القرارات.