هل تمثل استقالة جورج تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية الامريكية بداية سقوط الرؤوس الكبيرة في ادارة بوش؟ وهل نشهد في الاسابيع القادمة سقوط المزيد من الرموز؟ وهل قرر بوش التضحية ببعض الركاب في سبيل انقاذ المركب وتأمين اوفر الحظوظ للفوز بولاية ثانية في انتخابات نوفمبر القادم؟ أسئلة تتطاير كما الشظايا مستتبعة نبأ «استقالة» حوت كبير من ادارة كبيرة... هذا النبأ الذي يفتتح على ما يبدو مرحلة قطف رؤوس اينعت وحان قطافها لتبييض وجه ادارة بوش وتخليصها من اقصى ما يمكن من الادران حتى تكتسب «عذرية» جديدة تؤمن لها كل فرص الفوز في السباق الانتخابي... والمسألة بهذا الشكل تصبح الى «الاقالة» أقرب تخفيفا للعبء وتخفيفا للضغوط الهائلة التي تتعرض لها ادارة بوش في وقت «قاتل» بمعيار السباق الانتخابي. لماذا يرحل تينيت؟ الأسباب كثيرة ومتنوعة... وتبدأ بأسباب شخصية وتنتهي باعتبارات وحسابات سياسية. فأما الاسباب الشخصية فهي تعود بالخصوص الى الفترة التي سبقت الحرب على العراق... وهي الفترة التي شهدت تهميش دور وكالة المخابرات المركزية الامريكية (سي اي اي) وتهرئة رموزها وارباك ادائها بفعل سطوة صقور البيت الابيض من رموز اليمين المسيحي المتصهين واندفاعهم المجنون لتبرير العدوان على العراق وفبركة «الادلة والحجج» التي تزيد في تأجيج نار الحرب وتعجّل باندلاعها... في تلك الفترة نذكر ان المخابرات الامريكية وهي الجهاز المخوّل بما يملك من امكانات وادوات واطارات وجواسيس وعملاء لجمع المعلومات الدقيقة التي تصلح لأن تكون ارضية قرار سياسي سليم وصحيح لانه مدروس بدقة ونذكر... ان هذه الوكالة لم تتورط في الاندفاع الاهوج نحو توريط العراق بتهم واهية تكون مبررا للحرب كما يرغب في ذلك صقور ادارة بوش... وفي هذه النقطة نذكر جيدا كيف عمد رامسفيلد مثلا الى تحييد دور الوكالة وتشكيل جهاز مواز لمدّه بالتقارير والاكاذيب والقصص المفبركة على مقاس رغبته وعلى مقاس جموحه اللامعقول نحو شن الحرب على العراق... وفي هذا الاطار، جاءت الكثير من التلفيقات التي اصبح معروفا الان انها مفبركة تحت الطلب وأنها صممت باعتماد الاكاذيب وحتى التزييف (مثل تزوير توقيع وزير خارجية النيجر لتأكيد صفقة اليورانيوم المزعومة والتي بات معروفا انها وهمية) لتكون «حجة» علي وجود اسلحة الدمار الشامل في العراق وتسرّع بغزوه واحتلاله ل «تجريده» من هذه الاسلحة المحظورة... وهي مزاعم ثبت الان زيفها حيث اعترفت الادارة الامريكية بخلو العراق من هذه الاسلحة وهو ما اضطر تينيت نفسه الى الاعتذار علنا وتحمّل مسؤولية هذه السقطة الكبيرة في محاولة لانقاذ رئيسه بوش وتخليصه من وزر اتخاذ قرار في حجم قرار غزو بلد واحتلاله بناء على معلومات خاطئة ومفبركة على المقاس. ومثل هذه الاخطاء التي لم يكن لوكالة المخابرات المركزية ناقة فيها ولا جمل كثيرة ومع ذلك فقد اضطرت الى تحمّل وزرها وهو ما لطخ صورتها كجهاز يفترض انه يضم اناسا مهنيين ويحظى بكل الدعم والامكانات ليقوم بعمل اناس محترفين ويوفر معلومات دقيقة ومضبوطة لا تؤدي بدولة عظمى كالولايات المتحدةالامريكية في طريق الخطإ... لتصبح وهي تزعم قيادة العالم كمن يقود شاحنة كبرى وهو في حالة سكر او اغماء يحوّل وجهتها كيفما اتفق ولا يبالي ان اصطدمت بحائط او زج بها في طريق مسدود... وكل هذه تراكمات مسّت الرصيد الشخصي لجورج تينيت واعطته اكثر من سبب للاستقالة والنأي بنفسه عن هذه المركبة التي تتأرجح يمنة ويسرة. لكن سيل هذه التراكمات التي تشكلت في الفترة التي سبقت العدوان على العراق لم تعد تمثل شيئا امام الفظاعات التي ظهرت بعد الغزو والاحتلال... وهي تبدأ بفضيحة خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل التي عرّت الحرب نهائيا من اي غطاء سياسي واخلاقي وتنتهي عند فضائح تعذيب الاسرى العراقيين في سجن ابو غريب... وهو ما يعد نظريا فشلا مزدوجا لوكالة المخابرات. الفشل الاول تمثل في اخفاقها في التعرف بدقة على حقيقة ما يجري داخل هذه السجون... والفشل الثاني في اخفاقها في توقع انفجار الفضيحة وانكشاف فصولها المخزية التي عرّت الوجه القبيح ليس للاحتلال فحسب بل لامريكا برمتها وهي التي وضعت هذه الحملة تحت لافتة الحرية والديمقراطية وقيم حقوق الانسان فإذا بجيشها يأتي ممارسات وسلوكات فظيعة وموغلة في الخزي والعار... وهنا تبدأ الحسابات والاعتبارات السياسية... وهي حسابات دفعت بوش مجددا الى النأي بنفسه عن هذه الفظاعات وادانتها بصريح العبارة والتنصل منها باعتبارها سلوكات وممارسات فردية لا تلزم ادارته في شيء... وهي حسابات دفعت بوش أيضا حد الايعاز لوزير دفاعه بالاعتذار للاسرى العراقيين فيما اكتفى هو بالتعبير عن اسفه... كما دفعته الى حد التأكيد بأن المقاومة العراقية ليست ارهابا (قصر صفة الارهاب علي العمليات الانتحارية) وبأنه هو ايضا يكره ان يرى محتلا فوق اراضي امريكا وبأن رجال المقاومة العراقية اناس شرفاء يستفزهم وجود قوات احتلال على ارضهم! هل هي صحوة الضمير هكذا مرة واحدة؟ أم ان الرئيس بوش في طريقه الى سحب قوات الاحتلال وقد فهم وتفهّم رسالة المقاومة العراقية كما فعل الجنرال ديغول عندما قال لرجال المقاومة الجزائرية «لقد فهمتكم (Je vous ai compris) وهي العبارة التي كانت مقدمة لخروج الاستعمار الفرنسي من الجزائر؟ في حالة بوش يمكن الاجابة بالنفي عن السؤالين... لأن غاية ما في الامر ان بوش يلوذ بكل هذه البهلوانيات لينقي صورته من كل ما علق بها من ادران وليوفر لنفسه حظوظ الفوز بولاية رئاسية ثانية... وان وصل الامر حد التضحية ببعض الرؤوس الكبيرة من ادارته والايحاء بأنها سبب الاخطاء التي وقع هو فيها وأنه برموز ووجوه جديدة يصلح لقيادة امريكا لفترة ثانية... ووفق هذا السيناريو فإن استقالة تينيت تكون بحق فاتحة لموسم السقوط المدوي لرؤوس أكبر في صلب ادارة بوش من حجم رامسفيلد او حتى كوندوليزا رايس... المهم ان يعود سجل الرئيس أبيض ناصعا وقابلا للتسويق في سباق الانتخابات الرئاسية المحموم... وستغلف ب «الاعتبارات الشخصية» وستحظى ب «أسف بوش»! وقديما قال الشاعر: أول الغيث قطر... ثم ينهمر!