«النسيان» رواية صادرة عن دار الاتحاف للنشر لعباس سليمان، النسيان حالة يعيشها الراوي حيث تحولت ذاكرته الى غربال تنفذ منه المعلومات والقرارات وحيث اكتسى النسيان بالقلق وشحن بالكآبة. النسيان يحيلنا الى رؤية فلسفية يونانية مثالية تقرن بين المعرفة والتذكر وبين الجهل والنسيان. فإن كانت المعرفة إحالة الى عالم المثل فإن الجهل سقوط في عالم المادة وتمرغ في وحل العالم الارضي المشحون بالاخطاء. فالراوي، عند إقراره بأنه مصاب بالنسيان دون سبب معين ينفذ بالقارئ الى الواقع اليومي المدنس بالادران والمكتسي بالتفاصيل والجزئيات التي من شأنها الضغط على الانسان ليدور في دائرة القلق المغلقة ويستشعر الضغط المكثف والمتزايد الرؤية الخارجية والارتهان الى الواقع. إن الاستناد الى الاحداث والوقائع الخارجية، إنما يرتهن الى رؤية الراوي نحو أعراض المجتمع الدالة على الوه وتضخيم الصور الحياتية القائمة على القح وخاصة فيما يتعلق بوضع المرأة. فالمرأة هذا الكائن الجميل الذي مثّل مصدر نمو وتوالد للحياة واكتسى بطابع التحرر المقترن بالتطه، مثل موضوع الشهوة المزرية، المتطرة والشاذة، أحيانا، داخل نسيج الرواية. فطالما أن الراوي يستقي شخوصه من الزاوية المعتمة. فهو يغرقهم في نظرة شبقية تنأى عن جمال الروح وتتغلغل بين طيات اللذة الحادة. والراوي يعلل ذلك بأن المرأة إناء رغبات انطلاقا من وصف جسدها لتأجيج التجربة الحسية. فكأن المجتمع تجرّد عن قيمه ومن قضاياه ومشاغله ليحلّ فيه جسد المرأة المدنس محل الاهتمام والمعاينة. والراوي يقرن في هذا الاطار بين حالة النسيان وبين رسوخ مشاهد الجنس انطلاقا من الذاكرة، المختزلة لشذوذ أحد الامراء. وانطلاقا من المشهد السينمائي متخذا شريط «عصفور السطح» كأنموذج وعبر وقائع عاشتها العجائز والشابات، المحصنات وغيرهن فانقلب المجتمع الى «ماخور» لارذل الممارسات وأكثرها هتكا للمبادئ، ولتستحيل الرواية الى تجربة متحررة من كل القيود، في حل من كل الممنوعات ومصادر الرقابة. لذلك يعلل الراوي رؤيته منذ بداية هذا العمل السردي، سيما وأنه قدم نفسه ككاتب لمجموعة من القصص «إنهم لا يدركون أن لحظة الكتابة تفرض على الكاتب أحيانا ما لا يريده هو، وتجعله يأتمر بأمرها، فلا يدري إلا وهو يتهم شخصا بريئا ويزج بمتاهات الخناء بامرأة عفيفة أو هو يقتل ملاكا عفيفا». فعلا! إنه النسيان الذي ينتصب أداة تجسد كل تطهر وتحرر نحو الجمال وعالم المثال. ويطمس الصراع بين الرمز والواقع وينحدر الى قاع العتمة. فهذه الرؤية الخارجية تحطم أسوار الواقع لتستحيل الى فؤوس ومعاول تنقض على الاسس بضراوة. ليتراءى الواقع في مرآة هذه الرؤية أشلاء متناثرة لا تكشف إلا المواقع الآسنة والملوثة، وتحطم كل الاصنام المقدسة الكامنة في الضمير، حيث نستشف ذلك التلازم والتزامن بين الفعل الديني والفعل الاباحي، لتستحيل هذه الافعال الى طقس وثني، معبّر عن ذروة المسافة الفاصلة بين الدنيوي والأخروي والتحام طرفي النقيض في صورة واحدة. فطالما أن المرأة حورية في جنة النعيم. وحيث وُعد بها المؤمنون دون ضوابط أو قيود، فيجب أن تحل عقدة الانفصام العقائدي عبر تكوين جنة أرضية تتحوّل فيها المرأة الى «حورية هبطت من السماء» فثمة تصوير للشهوة الفجة المقترنة بسعادة اللذة لاشباع الذات. وثمة رؤية مسقطة على المرأة التي صورت مستسلمة، مكبّلة بالجهل، بمثابة أرض عجفاء خاوية من المعنى، كما نكتشف تسطيحا مبالغا فيه يئد عمق المرأة. رواية الشخصية وغياب التحوّل: طالما أن شخصية الراوي ثابتة مسطحة وغير متغيرة. فإن النسيان يتسلل اليها لينخر حركة تقدمها وليفقد حياتها من المعنى، هذه الشخصية الرازحة تحت سطوة الاحداث الكبرى المنبرية على الشاشة التلفزية كصور للاعلام المرئي أين يستتر العنف بجسد المرأة، ليتضخم وتتحول الصور المقدمة الى مادة للتشنج العضلي والتهيج النفسي. ولترتد بالانسان الى التاريخ البدائي حيث القسوة المحفورة في الذاكرة عبر الجسد، وليتقوقع الانسان داخل رغباته، أين يقمع أمانيه ويخمد شعلة روحه ويطفئ شمعة الجمال المشعة في أعماقه، حيث تمارس الكتابة فعل قتل الحياة للاقرار بالموت كمصير حتمي. وبالهزيمة كسقوط حلبة الموت. وقد سرد الراوي بعض تفاصيل قصصه وهي قصة الرجل الذي عاد من القبر ثم لم ينعم ببعثه فعاد الى القبر. وقصة المعلم الذي انقاد الى نهاية انهزامية بعد صراع مرير ومؤلم. ذلك ما ورد في الصفحات الاولى من الرواية. أما في الصفحات الاخيرة فثمة استضافة برنامج تلفزي لرجل عائد من الموت وهو يستعرض الاسئلة التي طرحت عليه من طرف ملائكة القبر ومن الموتى أنفسهم. كما اعتبر الانتحار ميتة وجودية نابعة من حركة التحدي، معبرة عن شجاعة الانسان وحريته في اختيار طريقة موت تناسبه لذلك تساءل الراوي: «أم أن عسر الولادة تقابله سهولة الانتقال من الحياة الدنيا الى الآخرة». مواضيع هذه القصص تتشابه مع مواضيع المجموعة القصصية «أيام العطش» للكاتب عباس سليمان والمتمحورة حول حدود تلك الرحلة العبثية إزاء مصير الانسان المحدود بين حالتي الولادة والموت. والموت والبعث، فرغم مخاتلة المعاني الدينية وإقحامها في قاع النفس للتعبير عن ذلك الفيض المأساوي. فإن أسئلة الراوي لم تخمد بعد في «النسيان» ولعلها استمرار في رحلة البحث رغم انها رحلة التيه ونسج الاحلام والاوهام لرتق ثقوب النفس الخاوية من المعنى «إنني أرغب فقط في تذكّر ماذا كنت سأفعل، وأين كنت سأذهب». المتن الحكائي وفجوات العجز لقد اعتمد الكاتب على عناصر مستقاة من الواقع، تكاد تكون مميتة للحركة، معرقلة لسير الاحداث، لم تشحن بأي ظنك نحو تحطيم أوثان القبح والتحرر نحو المعرفة الخلاقة، إذ اختلطت الآراء بالمعتقدات، واستحالت الرواية الى ربط بين أحداث متفرقة في الزمن. تسجن حرية الانسان وتظهره بصورة العاجز، المشوه، المورط في مستنقع الكتب. بطريقة تبرر عقم الحركة واستحالة تصور خيارات تتوق نحو المعرفة كأفق للتذكر. فالمتن الحكائي تفاصيل تستقي من الواقع ويقع تضخيمها لتحتل كامل إطار الصورة. فالراوي يعمق هوة العجز ويبرر غياب الفعل بجملة من الضغوط والقيود المكبلة للحركة في ظل عالم نفسي يزحف فيه القلق ويسطو على آخر معاقل الذاكرة «كم فرح الاغنياء بالفياغرا فطاروا اليها لجلبها وتعاطيها... وكم أحبط خبر ارتفاع أسعارها وكثرة مساوئها وعدم توفرها في كل الاسواق، الكهول والشيوخ والعاجزين... ولكنهم إنقاذا لفحولتهم البائدة سعوا الى تعويضها بوصفات محلية لا تكلف كثيرا... العسل والبصل واللوز والفستق ولحم الطيور وأشياء أخرى...» فهل هو عصر العجز حقا؟ أم أن تركيبة العجز كامنة في اللاشعور العربي انطلاقا من تصوير بعض الممارسات الشاذة لاحد أمراء بني أمية... وكأن الخارطة العربية بماضيها وحاضرها مجرد جسد مريض ينحو نحو الموت. وفي لحظات الاقتراب منه يقوم بأشياء عبثية معبرة عن احتضار الحياة في قفص الوجود. وعن تلك الشروح العصية عن النسيان بما أنها ندبات غائرة لا يمكن للعين إلا أن تلتقطها. إن سر هذا العجز تسطيح للانسان حين يسجن نفسه في حالات النكوص فتتبعثر داخل أقنعة شعورية ولا شعورية تضخم له أشباح الوهم... طالما أن النسيان غزا الراوي وأخمد الذات وأجهض الحركة، فهل ثمة سعي نحو الحركة عبر طرح الاسئلة غير المتناهية؟ أليس الراوي أداة تشكيل لواقع مختلف من خلال مبنى هندسي معبّر عن تراكم المعارف التي تهندس الفوضى وتعيد بناء المتن الحكائي ليستحيل الى مبنى حكائي وهل افتقد الكاتب مبرر الوجود ومعنى الحياة، أليس في الافق معرفة لواقع مختلف؟ أليس من الاجدر نبش التراب ليواري الانسان جسدا ميتا تفوح منه روائح التعفن؟ أليس من المجدي أن يتطهر الانسان من أدرانه ليكتشف حقيقة العمق المتفتق من الكمون؟!