بقلم الأستاذ: جمال الدين بوغلاّب على نخب لحظة في طريق بلا علامات، وما بين نفسين وما تبقى لنا منهما من نفس، تدور الأحداث، فنسأل: هل يستحق ما نتمناه أن نعيش لنراه؟ وهل مازال لنا متّسع من العمر حتى تنضج التجربة في أزمنة صادرت فيها الأجيال السابقة لحظة اللاّحقة واستغرقتها «حلولا» على غير وجه حق. إلا بعض اصرار على التفرّد بساحة «العقل» وتوابعه. فيأتي التنظير والحديث عن «الحداثة» في سياقات سردية أشبه ما تكون بنصّ حكاية يرسم ملامحها «فعل» خارج السياق. والحالة على ما هي عليه والعالم من حولنا يتغير. وتتسارع وتيرة الحديث في «الحداثة» و»الابداع» أهو سموّ؟ أم إتباع؟ ظاهر المسألة في البلاد العربية خوض في المصير وجوهرها أنه المسير على مراوحات حقل ألغام، ساحة مجون، أم مساحة نضال؟! تتداخل فيها «الأنا» الفرد ب»الأنا» الكلّ. بما فيها من ظواهر الخطاب الثقافي والسياسي والسلوك الحزبي. هكذا بدت لي مساحة «الفكر» العربية. ما بين احتماء بالسؤال لهتك الثوابت. واحتماء لتجاوز النقائص! هنالك من يسأل رفضا للجهل. وهنالك من يسأل تكريسا للواقع!! والكلّ يحتمي بشرعية وجهة النظر. وأصل المسألة أن العودة إلى الثقافة ليست في تقديري إلا محاولة لتشييد قراءة للتراث والهوية في مساحة ضيقة وحرجة تتموضع ما بين عقليتين: «الاجتثاث» و»العولمة». وواقع التجربة أنها لم تؤمّن عوامل نجاحها فالثقافة العربية في الخمسين سنة الماضية كانت إما «ثقافة موالية» مصابة بالتكلّس والعدمية تنظّر للموجود. وبدل أن تكون استباقية أصيبت بداء «الاتباعية» أو أنها «ثقافة رافضة» تحمل في سياقها بذور تقوقعها وعزلتها، صاحبها كمالك البذرة لا هو كلّف نفسه عناء غرسها في تربتها ولا هو صدق حين تعامله مع محيطه وإن صادف وتداولها فخارج فصلها حتى يظل مالكها لوحده. وتحوّلت بذلك المسألة الفكرية من بحث في تطوير الظاهرة الاجتماعية إلى «احترافية» تعمل بمقابل. وتحوّل «النّص» من كتاب مفتوح إلى خطاب مغلق متصوف. في لحظة زمنية أصيب فيها العالم بداء «الانفلات» من يشاء يفعل ما يشاء منظومات وأفراد فغاب السند وتلاشت المرجعية. وفي هذه اللحظة المصابة بداء التأله، يسهل إلقاء الأخطاء الخاصة على ولاية الشأن العام. وهو ما ولّد في واقعنا العربي المعاصر ما أراه بمنطق «تسييج السلطة» أي المؤسسات العامة وتحميلها وزر كل خطايانا ونتاج كلّ تجاربنا. ونسينا أن هذا المنطق من شأنه أن يباعد بين ضفتي الحياة وصفحتي كتاب ومعادلة مصيرنا لصالح كلّ عدو راهن أو محتمل. وهو ما يفسّر إنكفاء مؤسسات الفكر العربي وانحسار دور رجالات الابداع والتحديث رغم تنوّع المساحات وتعدّد الفرص للانتاج والابداع ومغادرة ساحة المغامرة الفكرية وتركها ل»ظاهرة الجنون اللاّهوتي» بمختلف نصوصه التأصيلية عقائديا ومذهبيا والاكتفاء بمجرّد المناورة من أجل «فرصة لموقع». وحالة الفراغ هذه هي التي ضخّمت صورة ودور «النظريات الاستئصالية» بل لعلّنا نقع في ذات المحظور فلئن كان هؤلاء يؤلّهون. سلطة النص وتجارب الماضي في تداخل زماني ومكاني مريع يجعل من الإنسان العاقل مجرّد «مأمور» ينفذ ولا يتعقّل، فإن جانبا لا يستهان به ممّن يصفون أنفسهم بالعقلانيين والموضوعيين يمارسون ذات الخطيئة عبر تأليه الذات دون وعي بالتداعيات والنتائج. وحتى لا يكون التوصيف غاية في ذاته يجدر بنا الانصراف إلى تشخيص الماثل، وإعادة توزيع الأدوار بشأنه، فالشأن العام يظل على ما هو عليه يرفض التخصص به ويطلب من خادمه نذر النفس والقدرة من أجل الانسان والمكان والذكر المستقبلي ولا يعقل أن يتحوّل إلى هاجس ومطية الجميع لأن في ذلك استحالة مادية بالأساس. وبذات اللحظة على المثقف العربي ومكونات مجتمعه المدني أن يعمل كلّ من رصيده من أجل بناء المؤسسة الرافدة للقرار السيادي ونبذ الحرص على تضخيم الرصيد الشخصي لأن الفرد تؤمنه المؤسسة وتضمن دوامه حتى بعد ذهابه. فيحصل التكامل بدل التصادم وتعبأ الساحة فتزول الكائنات الطفيلية والحالات الموضعية. وكما لا يعقل أن يتطيب المرء بالخرافة في زمن المؤسسات الطبية والطفرة العلمية، فلا يعقل أن يتولى مصادرة الخطاب أشباه أميين في ظاهر مرفوض وظاهرة لا علاقة لها ب»الدين» وإن ادعت الانتساب إليه لأن التاريخ والمنظومات القانونية والانساق المعرفية علّمتنا أن الحضارات لا تبنى والحقوق لا تسترد لا بقطع الأعناق ولا بمصادرة الأرزاق، بل ببناء أساسه الكلمة وهدفه العقل ووسيلته الحوار. وهو ما تسعى التجربة التونسية أن تؤمنه من خلال المشروع المستقبلي البديل لانتاج مجتمع منفتح ماسك بناصية الأمر متواصل مع الجميع بدون انزلاق في المتاهات. لذلك تظل تجربة جديرة بالدراسة والرعاية.