أنهيتُ، الحديث السابق، من ذكرياتي عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في رحاب جامعة القاهرة أو خارجها، والتي ما زلت أتذكرها وكأنها وقعت بالأمس القريب، والتي نبهتُ في البداية إلى أن معظمها صغير وقصير وبسيط بالمعنى النبيل للكلمة، وقد رويتها دون تكلف أو بهرج أو تضخيم، ولم أذكر فيها ما هو معروف لدى الآخرين، وأود أن أذكّر بأني نشرت الجزء الثاني من مذكرة قديمة وصفت فيها أول محاضرة أو درس من دروس طه حسين، وأشرت إلى أن أولها تحدثت فيه عن درس من دروس الدكتور عبد الحميد يونس، وقد وعدت بالعودة إلى هذا الجزء من تلك الرسالة لصلتها بما قلته عن طه حسين. لقد ورد اسم أستاذنا الدكتور عبد الحميد يونس في حديثي الثاني من سلسلة ذكرياتي عن الدكتور طه حسين عندما أشرت إلى أنه يشترك معه في فقد البصر، ولكنه يختلف عنه في ذلك شكلا إذ أن له عينين كبيرتين محملقتين كأنهما عينا مبصر، وسيرى القارئ أن ما قلته عنه في ذلك الحديث الثاني مطابق لما في هذه المذكرة، فقد قلت في الحديث الثاني : إن الدكتور عبد الحميد يونس [بصير مثل طه حسين، إلا أنه لم يكن يضع نظارة سوداء على عينيه، فقد كانت له عينان كبيرتان بارزتان محملقتان تبدوان كأنهما عينا مبصر.] وجاء في الجزء الأول من المذكرة التي نحن بصدد الحديث عنها ما يلي: [القاهرة 9/11/1955 دخلت الفصل أمس مع الأخ الشاذلي زوكار اعتمادا على أنه سيأخذ من هناك دفاتره وكتبه ونخرج إلى حيث نتحدث عن أشياء تهمنا، وفوجئنا بدخول الدكتور عبد الحميد يونس وهو رجل (ضرير)(1) لا يبصر شيئا ولكن شكل عينيه يدلان(2) على خلاف ذلك، وقد لا يشعر بذلك الذي لا يعرف عاهته هذه لأول مرة إذ أنه كثيرا ما يغالط الناظر إليه إذ يقلب يديه أمام ناظريه فيخيل بذلك للذي لا يعرفه أنه ينظر بهما، وكان يملي طوال الساعة في علم البلاغة وكان إملاؤه مستقيما غاية في الاستقامة والفصاحة ولم يتراجع طوال الحصة في أي كلمة...وأخيرا رأينا أنه لا حاجة بنا إلى المكوث بالفصل ما دمنا لا نكتب ولا نستفيد من هذا العلم الذي أفنينا فيه أعمارنا طالما كنا ندرس بتونس. خرجنا وتجولنا في أطراف الجامعة قليلا ثم إني ذهبت معه إلى منزله - ولأول مرة – ومن هناك ودعته إذ أن لي درسا بالفرنسية بعد حوالي عشرين دقيقة من فراقي إياه... وكان أن تأخرت عن الدرس عشرين دقيقة فسبقني الإخوانُ التلاميذ (3) بحوالي صفحة من القواعد الفرنسية... وكنت على موعد مع الأخ الشاذلي في مقر رابطة الأدب الحديث بعد السابعة وذهبت إلى هناك فلم أجده...وأخيرا جاء إلى المنزل ومعه صديق مصري خرجت معهما إلى ميدان التحرير(4) حيث استمعت من هذا الصديق المصري إلى شيء من شعره قال إنه قدمه إلى الأستاذ محمود أمين العالم وهو شعر حر من حيث القوافي وطول الصدر والعجز، جميل في بعض الأحيان عادي في أحيان أخرى وقد يصل إلى درجة السخافة في قليل من الآونة. وأخيرا طلب مني أن أُسمعه شيئا من شعري فأسمعته شيئا فأعجب به كلٌّ من الأخ الشاذلي والصديق المصري...ثم إنا تحدثنا حديثا طويلا عن الأدب واتجاهاته وافترقنا على أمل اللقاء هذا المساء(5) للذهاب معا إلى الأستاذ محمود أمين العالم، للتحدث معه في شأن شعر هذا الزميل المصري الشاعر... (6)] وأود أن أعلق على بعض ما جاء في هذه المذكرة بما يلي: 1) كلمة ضرير مشطوبة في الأصل لأن ما بعدها يدل عليها. 2) هكذا في المذكرة وأنا أقصد أن شكل عينيه يدل.. أو عيناه تدلان... 3) لم نتعود في ذلك الوقت على كلمة (الطلبة) لقربنا من مرحلة (التلمذة). 4) ميدان التحرير في قلب القاهرة تقريبا وكان منزلنا بجواره، ومقر رابطة الأدب الحديث قريبة من ذلك المكان، وقد زرته لأول مرة صحبة الشاعر الراحل الطيب الشريف الذي كانت له علاقة طيبة برئيس الجمعية ولعلي أعود إلى الحديث عن ذلك. 5) الغالب على الظن أن كلمة «هذا المساء» تدل على يوم كتابة المذكرة لا يوم لقائي بالشاذلي زوكار وصديقه الشاعر المصري المذكور، إذ لا مساء بعد ذلك الوقت. 6) لم أعد أذكر ماذا جرى بعد ذلك، والنقط في أصل النص وليست علامة حذف بعض الكلام. وبعد تقديم هذا الجزء من تلك المذكرة القديمة والتعليق عليها بحثت في كتاب «الأعلام» للزركلي عن اسم عبد الحميد يونس لأعرِّف به فلم أجد له ذكرا، فبحثت عنه في «تتمة الأعلام للزركلي»لمحمد خير رمضان يوسف فوجدت له ترجمة في المجلد الأول منه ص272/273 يترجم له ويتحدث عن الظروف التي فقد فيها بصره، وهو هذا الحديث الطريف والمؤلم في نفس الوقت لأن ابنه الذي يحمل اسم والد أبيه قد فقد بصره في نفس الظروف التي فقد فيها والده عبد الحميد بصره وهذا من باب عجائب الصدف. قال عنه صاحب كتاب «تتمة الأعلام»:(عبد الحميد أحمد يونس ولد 1328ه 1910م وتوفي 1409ه 1988م أحد رواد الأدب الشعبي. تعلم العلوم الأولية في الكتاتيب، ثم واصل مسيرته التعليمية حتى تخرج في كلية الآداب بجامعة القاهرة، حيث حصل على الليسانس عام 1940 من قسم اللغة العربية، فالماجستير عام 1946م فالدكتوراه عام 1950م وكان موضوعها «سيرة بني هلال ومغامرات أبي زيد الهلالي». في حياته: عمل مترجما ومخبرا صحفيا ومحررا وكاتبا، ثم عضوا في هيئة التدريس بقسم اللغة العربية بكلية آداب القاهرة، فأستاذا ورئيسا للقسم. وقد فقد بصره وهو لم يزل في سن السادسة عشرة من العمر، بسبب انفصالٍ في شبكة العين، نتيجة حادث كرة قدم. والغريب أن الحادث نفسه قد جرى لابنه د. أحمد يونس بعد ثلاثين عاما تقريبا ونتج عنه كف بصر الابن أيضا ! له العديد من الأعمال الأدبية والعلمية منها: اشتراك مع مجموعة من المترجمين ل(دائرة المعارف الإسلامية) التي ألفها المستشرقون باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية. ترجمة كتاب (الزواج) للعالم الأنثروبولوجي إدوارد مارك كما ترجم للشاعر الهندي (طاغور) . ترجمة كتاب (عالم الغد) الذي ألفه ه. ج. ويلز، وقد شاركه في ترجمة هذا الكتاب حافظ جلال. ترجم مع عثمان نويه ورمزي ياسين كتاب (فلسفة الجمال). ألف كتبا عدة مثل الهلالية، والحكاية الشعبية، وخيال الظل، والظاهر بيبرس، ودفاع عن الفولكلور.] ذلك هو عبد الحميد يونس الذي كان يدرسنا الأدب الشعبي أو الفولكلور أو التراث الشعبي، وقد ساقني الحديث عن طه حسين إلى الحديث عنه. وأشير في الختام إلى أني قد عثرت في مذكراتي القديمة على أشياء أخرى تتعلق بمحاضرات طه حسين، وستكون لي عودة إليها لنقارنها بما سبق ذكره وسيجد القارئ فيها ما يؤكد ما ذكرته في الأحاديث السابقة، ولكن عودتي إلى هذا الموضوع ستكون من آن إلى آخر تجنبا للإطالة في موضوع واحد. فإلى اللقاء.