أواصل في هذا الركن سرد ذكرياتي، عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، في رحاب جامعة القاهرة أو خارجها، فأنا ما زلت أتذكرها وكأنها وقعت بالأمس القريب، وقد نبهت منذ البداية إلى أن معظمها صغير وقصير وبسيط (بالمعنى النبيل للكلمة)، وسأرويها دون تكلف أو بهرج أو تضخيم: أذكر أنه عندما انعقد مؤتمر الأدباء العرب بالقاهرة (من 9 إلى 15 ديسمبر سنة 1956) تحت عنوان «الأدب والقومية العربية»، كان الوفد التونسي المشارك فيه متركبا من حسن حسني عبد الوهاب رئيسا، ومحمود المسعدي ومحمد الحليوي ومحمد مزالي أعضاء، وقد حضرت بعض جلسات ذلك المؤتمر التي كانت تنعقد في القاعة الكبرى التي رأيت فيها كثيرا من الشخصيات الأدبية المعروفة من معظم الأقطار العربية مثل: يوسف السباعي على المنصة غالبا ونجيب محفوظ في القاعة الكبرى للاجتماعات، ومحمود المسعدي الذي كان يجلس بجانب الدكتور طه حسين في نفس تلك القاعة، وهما يتجاذبان أطراف الحديث همسا، وقد بدا لي أن حديثهما كان حول المحاضرة التي ألقاها المسعدي في المؤتمر عن «الفن للفن» والتي رفض فيها أن يكون الأدب في خدمة موضوع من المواضيع، مثل «القومية العربية» أو أي غرض سياسي لا تكون فيه حرية الأديب، بحجة الالتزام الذي كثيرا ما يؤول إلى الإلزام، ويكون فيه خنق تفكير الأديب وتقييد للمبدع وقتلٌ للأدب، كما قتلت الشيوعية حرية التعبير في الأدب السوفياتي وخدمتْ مبادئ لم تثبت لدى معتنقيها بزوال الداعين إليها. وما زلت أتذكر أن الكلمة التي ألقاها المسعدي قد قوبلت بهجوم شنه عليه أنصار ذلك الشعار الذي أطلقه عبد الناصر طيلة أيام حكمه، من الذين يؤيدون تكريس الكتابة الأدبية للدعوة إلى القومية العربية، ومنهم الدكتور عبد العظيم أنيس على سبيل التأكيد، ومحمد سعيد العريان إن لم تخني الذاكرة في تأييد ذلك الشعار السياسي. وقد كنت أتوقع أن المسعدي قد أهدى نسخة من روايته السد إلى طه حسين في تلك المناسبة، أو لعله أرسلها إليه بالبريد قبل ذلك المؤتمر أو بعده، أو أرسلها إليه مع الشاذلي زوكار الذي أجرى مع طه حسين حوارا نشر بتونس في أكثر من مكان، والذي أكد أنه هو الذي قدم تلك الرواية إلى عميد الأدب في ذلك الوقت أو في وقت قريب منه. ومعلوم أن رواية «السد» قد طبعت لأول مرة سنة 1375/1955 وقد قرأت - إثر ذلك المؤتمر الذي رأيت فيه المسعدي يجلس بجوار عميد الأدب العربي - مقالا مطوّلا في جريدة «الجمهورية» يوم 27 فبراير «فيفري» 1957 عن رواية السد، وقد عقّب عليه المسعدي تعقيبا أبدى فيه اختلافه مع طه حسين في بعض ما ذهب إليه في مقاله، وقد رد هو بدوره على ذلك التعقيب، وقد رأيت نقده ذلك منشورا في كتابه «من أدبنا المعاصر» ص ص 112/122 في الشركة العربية للطباعة والنشر، ولم ينشر رد طه حسين على رد المسعدي في كتاب فيما أعلم، وقد نشرتُ كل ذلك في كتابي «محمود المسعدي وكتابه السد» الذي طبع في تونس أربع مرات، (وقد عدت الآن للتثبت من تواريخ هذه المعلومات في كتابي المذكور.) وأذكر بهذه المناسبة أننا اجتمعنا نحن الطلبة، ذات ليلة، في مقر اتحاد الطلبة التونسيينبالقاهرة، بالأستاذ محمود المسعدي الذي كان مصحوبا بالرسام حاتم المكي، والغالب على الظن أننا رأينا عندهما، في ذلك اللقاء نسخة من كتاب السد، وعلى غلافها وبداخلها رسوم لحاتم المكي وهي ذات أشكال لم تعجبني شخصيا في ذلك الوقت، لأني رأيت أنها مرسومة بأسلوب لم أتعود عليه، وقد دار بيننا وبين الكاتب والرسام حوار حول الأدب والثقافة وحول تونس المستقلة حديثا آنذاك. ولست أتذكر جيدا إذا كان هذا اللقاء بالمسعدي والمكي قد وقع بمناسبة حضور مؤتمر الأدباء العرب أم بمناسبة أخرى لأني لا أعلم أن هذا الرسام قد كان في الوفد التونسي إلى المؤتمر المذكور، لذلك أتوجه بالسؤال إلى من يعرفون شيئا عن تلك الفترة، من الطلبة التونسيين في أواسط الخمسينيات في جامعة القاهرة وجامعة عين شمس، أن يوضحوا أو يقوموا ما لعله تسرب إلى ذاكرتي من الخطل أو السهو في هذه النقطة أو سواها من ذكرياتي عن طه حسين، وأنا أعدهم بأني سأستدرك ما أراه مستحقا للاستدراك والإصلاح والتصويب مع شكري السالف. وأذكر أني كنت أرى، في رحاب جامعة القاهرة، الدكتور مؤنس ابن طه حسين، داخلا أو خارجا منها، وهو أستاذ للغة الفرنسية بها، وكنت أراه دائما يحمل محفظة ثقيلة مكتظة بالأوراق والكتب، ويضع على عينيه نظارتين كثيفتين، وكان فيما أتذكر أميل إلى الشُّقرة منه إلى البياض، ولم أره ولو مرة داخلا أو خارجا أو مدرسا في أي فصل من الفصول، ولكني كنت أراه في رحاب كلية الآداب، حيث قيل لي إنه ابن طه حسين. هذه هي الذكريات التي ما زالت تحتفظ بها ذاكرتي عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. وقد بقيت لدي بعض الملاحظات التي لها صلة بهذه الذكريات، والتي لا تعتبر من الذكريات الخاصة جدا ولكن صلتها بما سبق يفرض عليَّ ذكرَها، للتوضيح والتدليل على صحة ما ذكرت في أحاديثي السابقة، ولكني قبل ذكرها أرى لزاما علي أن أنشر تلك المذكرة التي كتبتها عن أول محاضرة حضرتها لطه حسين والتي وعدت بنشرها لصلتها الكبيرة بأحاديثي السابقة عن عميد الأدب العربي، وهذا ما سأقدمه في لقائنا القادم إن شاء الله، فإلى اللقاء.