قطيعة الرحم ذنب عظيم، وجرم جسيم، يفصم الروابط، ويقطع الشواجر، ويشيع العداوة والشنآن، ويحل القطيعة والهجران. وقطيعة الرحم مزيلة للألفة والمودّة، مؤذنة باللعنة وتعجيل العقوبة، مانعة من نزول الرحمة، ودخول الجنة موجبة للتفرد والذلة... وهي مجلبة لمزيد الهمّ والغمّ، ذلك ان البلاء اذا اتاك ممن تنتظر منه الخير والبرّ والصلة، كان ذلك اشدّ وقعا، وكفى بهذا الذنب زاجرا قوله تعالى: {فهل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا في الارض وتقطّعوا ارحامكم (22) اولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى ابصارهم (23)} [سورة محمد]. وقول النبي صلى الله عليه وسلّم: {لا يدخل الجنة قاطع رحم} رواه البخاري ومسلم، واللفظ له والحديث سيتناول قطيعة الرحم، وذلك من خلال ما يلي: **أسباب قطيعة الرحم 1 الجهل: فالجهل بعواقب القطيعة العاجلة والآجلة يحمل عليها، ويقود اليها، كما ان الجهل بفضائل الصلة العاجلة والآجلة يقصر عنها، ولا يبعث اليها. 2 ضعف التقوى: فاذا ضعفت التقوى، ورق الدين لم يبال الرء بقطع ما امر الله به ان يوصل، ولم يطمع بأجر الصلة، ولم يخش عاقبة القطيعة. 3 الكِبْر: فبعض الناس اذا نال منصبا رفيعا، او حاز مكانة عالية، او كان تاجرا كبيرا تكبّر على اقاربه، وأنف من زيارتهم والتودد اليهم، بحيث يرى انه صاحب الحق، وانه اولى بأن يزار ويؤتى اليه. 4 الانقطاع الطويل: فهناك من ينقطع عن اقاربه فترة طويلة، فيصيبه من جراء ذلك وحشة منهم، فيبدأ بالتسويف بالزيارة فيتمادى به الامر الى ان ينقطع عنهم بالكلية، فيعتاد القطيعة ويألف البعد. 5 العتاب الشديد: فبعض الناس اذا زاره احد من اقاربه بعد طول انقطاع امطر عليه وابلا من اللوم، والعتاب والتقريع على تقصيره في حقه، وابطائه في المجيء اليه. ومن هنا تحصل النفرة من المجيء، خوفا من لومه، وتقريعه وشدة عتابه. 6 التكلف الزائد: فهناك من اذا زاره احد من اقاربه تكلف لهم اكثر من اللازم وخسر الاموال الطائلة، وأجهد نفسه في اكرامهم وقد يكون قليل ذات اليد. ومن هنا تجد ان اقاربه يقصرون عن المجيء اليه، خوفا من ايقاعه في الحرج. 7 قلة الاهتمام بالزائرين: فمن الناس من اذا زاره اقاربه لم يبد لهم الاهتمام، ولا يفرح بمقدمهم ولا يستقبلهم الا بكل تثاقل، مما يقلل رغبتهم في زيارته. 8 الشح والبخل: فمن الناس من اذا رزقه الله مالا او جاها تجده يتهرب من اقاربه، خوفا من الاستدانة منه، او يكثرون الطلبات عليه، او غير ذلك! وبدلا من ان يقوم على خدمتهم بما يستطيع او يعتذر لهم عما لا يستطيع اذا به يهجرهم، حتى لا يرهقوه بكثرة مطالبهم كما يزعم! وما فائدة المال، او الجاه اذا حرم منه الاقارب؟ وما اجمل قولهم: ومن يكُ ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يُستغن عنه ويُذْمم 9 تأخير قسمة الميراث: فقد يكون بين الاقارب ميراث لم يقسم، تكاسلا، او لأن بعضهم عنده شيء من العناد، او نحو ذلك. وكلما تأخر قسم الميراث وتقادم العهد عليه شاعت العداوة والبغضاء بين الاقارب، وتكثر المشكلات فتحل الفرقة، وتسود القطيعة. 10 الشراكة بين الاقارب: في مشروع، او شركة ما دون ان يتفقوا على اسس ثابتة، ودون ان تقوم الشركة على الوضوح والصراحة بل تقوم على المجاملة، واحسان الظن. فاذا ما زاد الانتاج، واتسعت دائرة العمل دب الخلاف، وحدث سوء الظن ومن هنا تسوء العلاقة، وتحل الفرقة. 11 الاشتغال بالدنيا: واللهث وراء حطامها، فلا يجد هذا اللاهث وقتا يصل به قرابته، ويتودد اليهم. 12 الطلاق بين الاقارب: فتكثر المشكلات بين اهل الزوجين. 13 بُعد المسافة والتكاسل عن الزيارة. 14 التقارب في المساكن بين الاقارب: فربما اورث ذلك نفرة وقطيعة بين الاقارب، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال: «مروا ذوي القرابات ان يتزاوروا ولا يتجاوروا». وقال اكثم بن صيفي: «تباعدوا في الديار تقاربوا في المودّة». ثم ان القرب في المسافة قد يسبب بعض المشكلات، التي تحدث بسبب ما يكون بين الاولاد من تنافس، او مشادة، او غير ذلك وقد ينتقل ذلك الى الوالدين فيحاول كل من الوالدين ان يبرئ ساحة أولاده، فتنشأ العداوة، وتحل القطيعة. 15 قلة تحمل الاقارب والصبر عليهم: فبعض الناس لا يتحمل ادنى شيء من اقاربه، فبمجرد اي هفوة، او زلة، او عتاب من احد من اقاربه يبادر الى القطيعة والهجر. 16 نسيان الاقارب في الولائم والمناسبات: فربما نسي واحدا من اقاربه، وربما كان هذا المنسيّ ضعيف النفس، او ممن يغلب عليه سوء الظن فيفسّر هذا النسيان بأنه تجاهل له، واحتقار لشخصه، فيقوده ذلك الظن الى الصرم والهجر. 17 الحسد: فهناك من يرزقه الله علما، او جاها، او مالا، او محبة في قلوب الآخرين، فتجده يخدم اقاربه، ويفتح لهم صدره، ومن هنا قد يحسده بعض اقاربه، ويناصبه العداء، ويثير البلبلة حوله، ويشكك في اخلاصه. 18 كثرة المزاح: فإن لكثرة المزاح آثارا سيئة، فلربما خرجت كلمة جارحة من شخص لا يراعي مشاعر الآخرين فاصابت مقتلا من شخص شديد التأثر، فأورثت لديه بغضا لهذا القائل، ويحصل هذا كثيرا بين الاقارب، لكثرة اجتماعاتهم. 19 الوشاية والإصغاء اليها: فمن الناس من يسعى بين الاحبة لتفريق صفهم، وتكدير صفوهم، فكم تحاصّتْ بسبب الوشاية من رحم، وكم تقطعت من اواصر، وكم تفرق من شمل. واعظم جرما من الوشاية: ان يصغي الانسان اليها ويصيخ السمع لها. وما اجمل قول الأعشى: ومن يطع الواشين لا يتركوا له صديقا وان كان الحبيب المقربا 20 سوء الخلق من بعض الزوجات: فبعض الناس يبتلي بزوجة سيئة الخلق، لا تحتمل احدا من الناس، ولا تريد ان يشاركها في زوجها احد من اقاربه او غيرهم، فلا تزال به تنفره من اقاربه وتثنيه عن زيارتهم وصلتهم وتقعد في سبيله اذا اراد استضافتهم، فاذا استضافهم او زاروه لم تظهر الفرح والبشر بهم، فهذا مما يسبب القطيعة بين الاقارب. وبعض الازواج يسلم قياده لزوجته فاذا رضيت عن اقاربه وصلهم وان لم ترض قطعهم، بل ربما اطاعها في عقوق والديه مع شدة حاجتهم اليه. **علاج قطيعة الرحم مرّ بنا القطيعة واضرارها، وذكر شيء من الاسباب التي تحمل عليها فاذا كان الامر كذلك فما اجدر العاقل ان يحذر قطيعة الرحم، وان يتجنب الاسباب الداعية اليها، وما احرى به ان يصل الرحم، وان يبلّها ببلالها، وان يعرف عظيم شأن الرحم، ويتحرى اسباب وصلها ويرعى الآداب التي ينبغي مراعاتها مع الاقارب. فما صلة الرحم؟ وبأي شيء تكون؟ وما فضائلها؟ وما السبل والاسباب المعينة عليها؟ وما الآداب التي ينبغي مراعاتها مع الاقارب؟ **بأي شيء تكون الصلة؟ تكون بأمور عديدة، فتكون بزيارتهم، وتفقد احوالهم والسؤال عنهم، والإهداء اليهم، وانزالهم منازلهم، والتصدق على فقيرهم، والتلطف مع غنيهم وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم وضعفتهم، وتعهدهم بكثرة السؤال والزيارة: اما ان يأتي الانسان اليهم بنفسه او يصلهم عبر الرسالة، او المكالمة الهاتفية وتكون باستضافتهم، وحسن استقبالهم واعزازهم واعلاء شأنهم وصلة القاطع منهم. وتكون ايضا بمشاركتهم في افراحهم، ومواساتهم في اتراحهم وتكون بالدعاء لهم وسلامة الصدر نحوهم، واصلاح ذات البين اذا فسدت بينهم، والحرص على تأصير العلاقة وتثبيت دعائمها معهم، وتكون بعيادة مرضاهم، واجابة دعوتهم، واعظم ما تكون به الصلة، ان يحرص المرء على دعوتهم الى الهدى، وامرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر... وهذه الصلة تستمر اذا كان الرحم صالحة مستقيمة او مستورة. اما اذا كانت الرحم كافرة او فاسقة فتكون صلتهم بالعظة والتذكير، وبذل الجهدفي ذلك، فإن اعيته الحيلة في هدايتهم كأن يرى منهم اعراضا او عنادا او استكبارا او ان يخاف على نفسه ان يتردى معهم، ويهوي في حضيضهم فلينأ عنهم وليهجرهم الهجر الجميل الذي لا اذى فيه بوجه من الوجوه وليكثر من الدعاء بظهر الغيب، لعل الله ان يهديهم ببركة دعائه. ثم ان صادف منهم غرّة، او سنحت له لدعوتهم او تذكيرهم فرصة فليقدم وليعيد الكرّة بعد الكرّة. ومما يحسن ذكره في دعوة الاقارب، ونصحهم ان ينبّه على مسألة مهمة في هذا الباب، الا وهي احسان التعامل مع الاقارب، والحرص على دعوتهم باللين، والحكمة والموعظة الحسنة، وألا يدخل معهم في جدال الا في اضيق الحدود، وبالتي هي احسن.