لم يمر يوم واحد من شهر سبتمبر 2009 دون ان تسجّل فيه فيضانات باحدى مناطق المعمورة، وآخرها ما حصل أمس في مدينة الرديف بولاية قفصة حيث جدّت فيضانات كبرى تسبّبت في خسائر مادية وبشرية بعد تهاطل أمطار تجاوزت كميّتها 150 ملم في وقت وجيز... فمن تركيا الى فرنسا الى المغرب والجزائر والولايات المتحدةالامريكية ودول جنوب شرق آسيا وعدد من دول جنوب الصحراء الافريقية وغرب ووسط افريقيا مثل بوركينا فاسو اضافة الى باكستان ارتفع عدد ضحايا الفيضانات هذه الأيام كما ارتفع حجم الخسائر المادية الى درجة ان الفيضانات تحوّلت في الأيام الاخيرة الى مادّة اعلامية رئيسية لأغلب وسائل الاعلام كما تحوّلت أيضا الى واحدة من أهم نقاط جداول الاعمال عند سلط القرار في أغلب دول العالم. فلماذا ارتفع «حجم» هذه الفيضانات في عدّة دول من العالم خلال الشهر الجاري؟ وما مدى مساهمة ظاهرة التغيرات المناخية وكذلك مساهمة الانسان في حصولها؟ «الشروق» التقت بالسيد جميل الحجري أستاذ علم المناخ بجامعة منوبة للحصول على اجابات عن هذه الاستفسارات. أشار الاستاذ الحجري في البداية الى أن الفيضانات التي تحصل من حين الى آخر تصنّف قبل حصولها ضمن «المخاطر المناخية» التي يتوقّع حصولها في أي مكان وزمان... غير أن وصفها ب «الكوارث الطبيعية» لا يصحّ الا بعد حصولها وبعد تسبّبها في نتائج سلبية على الصعيد البشري والمادي والطبيعي. ويضيف السيد جميل الحجري أن تونس كغيرها من البلدان معرّضة للمخاطر المناخية لكن درجة تحوّل هذه المخاطر الى كوارث يكون بحسب مدى ادخال الانسان تحويرات على الطبيعة... فمثلا حسب المتحدث فإن كمية 100 ملم من الأمطار قد تسبّبت في حصول كارثة وقتلى بالمنطقة «أ» لكن قد تمره مرور الكرام دون ان تخلّف ولو نتيحة سلبية واحدة لو تتهاطل على المنطقة «ب». فنزول الأمطار بكميات غزيرة وفي وقت وجيز موجود منذ قديم الزمان ويلقبه أجدادنا ب «غسالة النوادر» وتقع تسميته في بعض الجهات ب «أمطار بالقبب» وبالتالي فإنه لا يجوز القول من الناحية العلمية بأن حجم الأمطار كثر في السنوات الاخيرة. «خلّي حرمة الواد» بالتوازي مع تواصل وجود ظاهرة الأمطار الغزيرة، تغيّر بشكل كبير حجم تدخل الانسان في الطبيعة خاصة من خلال عمليات جرف التربة لغايات صناعية وكذلك من خلال ظاهرة البناء التي اكتسحت حتى مجاري المياه والأودية مما يخلف خطرا حقيقيا على الحياة البشريّة كلّما نزلت الأمطار كعادتها بغزارة... وهذا ما يحيل دوما حسب الأستاذ الحجري الى توصية أجدادنا الهامة «خلّي حرمة الواد» اضافة الى المثل الفرنسي الشهير الذي يقول إنه «طالما مجرى واد موجود طالما هناك خطر فيضانات». وهذا ما يفسّر مثلا الفيضانات الكبرى بمنطقة سبالة بن عمار في خريف 2007 وكذلك فيضانات خريف 2003 بالعاصمة وانضافت إليها فيضانات الرديف أمس، ولا يمكن تفسيرها كلّها إلا بنصيحة «خلّي حرمة الواد» حيث أن كل هذه الفيضانات وقعت بسبب فيضان أودية على مساكن محاذية لها (مثل وادي بيّاش في الرديف) حيث أن الوادي لم يتوجّه الى المساكن بل المساكن هي التي توجهت إليه. مُزن ركامي قال السيد جميل الحجري ان هذه الأمطار الغزيرة في وقت وجيز والمتسبّبة في فيضانات كارثية هي ميزة فصل الخريف الذي يمثل فترة انتقالية من الطقس الحار الى البارد، حيث يحصل تغيّر فجئي في المخزون الطاقي عبر تناقضات بين الهواء البارد والساخن بما يتسبب في تكوّن سحب تسمى «المزن الركامي» الموجودة بكثرة في المناخ المتوسطي، وهو المناخ الوحيد في العالم الذي لا تنزل فيه أمطار في الصيف، فإذا تكوّنت هذه السحب تعطي أمطارا غزيرة في وقت وجيز تسمى «زخّات» (بالقبب حسب العامية التونسية) فتضرب على الأرض بقوة وبما أن الارض يابسة (بعد مرور الصيف) فإن الماء لا يتسرّب فيها بسهولة ويضطرّ للسيلان وهو ما يتسبّب في فيضانات وتبقى الوسيلة الوحيدة لتجنب هذا الخطر الطبيعي هي تعديل تدخل الانسان في الطبيعة من خلال ابتعاده عن البناء والتواجد قرب مجاري الأودية والمياه وتجنب تغيير اتجاهاتها وكذلك تجنب إلقاء الأوساخ والفضلات فيها والعناية بقنوات صرف المياه خلال الخريف،وما حصل في الرديف أمس او ما حصل في سبالة بن عمار منذ عامين يمكن أن يحصل في أية منطقة من البلاد خلال فترة الخريف وهو ما يدعو دوما الى الحذر.