عمان الشروق من مبعوثتنا الخاصة فاطمة بن عبد الله الكراي: كنت على موعد مسبق مع والدته الفلسطينية... وكان يرافقها بسيارة مستأجرة في عمان، حتى تكون حركيتهما أيسر في ارض اللقاء بين هذا الشاب الفلوجي العنيد وهذه الأم الارملة لعراقي تقول عنه لما كان يناضل ويقاتل مع الثورة الفلسطينية في لبنان الى حدود 1982 انه كالصقر يقاتل بلا هوادة، لا يهاب الموت ويقبل على الشهادة في أرض المعركة ببيروت حين بدأت انياب الليث الاستعماري تبرز لتتمكن من الجسد العربي... وقف الشاب الفلوجي الذي ترعرع في العراق بلده وموطن ووطن أبيه، وكان يبدو على عجل، فأوحيت له ان اجلس وحدثني عن العراق وعن الفلوجة وما حصل، فأنا قادمة من تونس الى هنا حتى أتلمس الحقيقة الغائبة عن الشاشات التلفزيونية والوكالات الاعلامية المراقبة من «المارينز» و»البنتاغون» والسي آي آي... ابتسم... فجلس وأفهمني انه ينتظر سؤالي الاول، وقد اعتلت محياه بسمة ووجهه النظر حمرة وقال بعد ان سألته عن حال العراق المسكوت عنه: أكثر ما يعاني منه المجتمع العراقي هو عمليات الخطف... والفدية تتراوح بين «ربع مليون» دولار (250 ألف دولار) وثلاثين مليون دولار! سألته بسرعة: هذه مبالغ خيالية فردّ بسرعة: «نعم هناك مهنة جديدة في العراق الآن اسمها التمعش من الاختطاف...» وقبل ان يشدد على التوضيح كنت قد سألته ان كان يقصد تلك الجماعات التي تختطف عبر الشاشة متعاونين مع الاحتلال فأكد لي، هذا الشاب الفلوجي الذي تقول امه الفلسطينية الجالسة حذوي وبلهجة عراقية لم تنسها كما لم تنس العراق: «هذا ابني الصغير (28 سنة) سوّى الهوايل في مسألة الفلوجة ومغامرات البحث عن الخاطفين... قصّ عليها يا ولدي الوقائع». والحقيقة، ،وقبل ان يعاود هذا الشاب العراقي الملفت ذكاؤه وحكمته وابتسامته التي لا تفرق محياه كلما تحدث عن بلاده ووطنه الجريح، اكدت لهما من جديد اتفاقنا المبدئي أنني لن اسميهما ولن أذكر تفاصيل عنهما، لانهما وببساطة هي (الأم) تعاني من غطرسة محتل لا يشق له غبار في الارهاب والقتل المنظم وهو الابن الشاب الذي يخضع بلده العراق على «ذبحة» صدرية قوامها احتلال وعملاء وتدمير يومي وفوضى مقصودة... قال محدثي قبل أن يغادر جلستنا: ان الخاطفين لا يخافون أحدا... فالانفلات سيد الموقف، والاحتلال لا يبحث عن هؤلاء... بل ربما يشجعهم على صنيعهم... قلت: وكيف ذلك؟ قال: الخاطفون عصابات عديدة ومنظمة يختطفون الرهينة ويطالعك رقمهم عبر كاشف النقال... ويقولون للمعني بأمر الضحية المختطف: احكي معنا على هذا الرقم... تذكرت العراق سنوات خلت... حين كنت تعبر «الكرخ» «للرصافة» والعكس كذلك، ولا شائبة تمس أمنك... تذكرت تلك الشوارع التي لم يزدها الحصار الا شموخا في حين خطط الاعداء لاذلال العراقي وجعله في مرتبة دون مستويات مجتمعات افريقية كان العراق يقتطع جزءا من عائداته النفطية المؤممة ليساعدها على تجاوز محنة نظام اقتصادي عالمي مجحف... لم تكد تمر تلك الصور تباعا حتى نطقت أمه الفلسطينية القادمة للقاء فلذة كبدها بالقول: والله إني أبكي العراق بلا دمع... تحتقن الدمعة كما البسمة، ولا واحدة منهما تريد ان تنطلق... واصل الشاب الفلوجي الذي عايش احداث الفلوجة وتحدث عن المقاومة بشكل غير الذي وصلنا من انباء متفرقة فقال: احد طلبة كلية الطب اختطفوه في وقت الامتحانات... كان الطالب يمتحن حين انقضت عليه مجموعة واختطفته طالبة فدية عالية وباهظة من والده الذي كان يشغل وكيل وزارة قبل الحرب والاحتلال... هكذا بدأنا نرى فئات «قليلة» عراقية تستثري عن طريق هذا النوع من الايرادات المالية... وبسرعة تذكرت أثرياء الحرب واثرياء الازمات واذا بي اتأكد وبسرعة ان هؤلاء الخاطفين اصحاب المهنة الجديدة في العراق المحتل هم اشد براغماتية من «أغنياء الحرب» الذين قرأنا عنهم في كتب التاريخ... في مكان آخر من العراق وضمن هذه الحلقة الصعبة والجديدة على العراق والعراقيين يضيف محدثي على مسامعي ومسامع امه الفلسطينية، ان أحد الشبان العراقيين اختطف على أيدي احدى العصابات المذكورة، وبعد ان تم التفاوض على الفدية وقدم الأهل «المال» المطلوب وجدوا ابنهم معذبا وقد تعرض جسده الى شتى انواع التعذيب... عائلة اخرى في العراق ممن يظهر عليهم الثراء المادي تعرض ابنهم الى الخطف ايضا فاذا بهم يجلسون مع 20 عصابة على الاقل حتى يعثروا على ابنهم عند من... لم تكن هذه سوى صورة فورية وتلقائية عن جانب من حياة العراق تحت الاحتلال... رغم هذه المآسي رفض «الشاب الفلوجي» ان ينساق وراء نداء أمه ليبقى معها وتمكنه من الجنسية الفلسطينية وفق قانون الاحوال الشخصية الفلسطيني الجديد... ابتسم الابن مرة أخرى وقال لها: هل تريديني ان اغادر بلدي... لقد انهيت الدراسة الجامعية وانا الآن اتلمس طريقي نحو مستقبل مشترك مع ابناء بلدي... ما حصل في الفلوجة يواصل الابن الشاب لا يجب ان يذهب هكذا... وبعد ان غادرنا الى اصحاب واتراب له في عمان واصلت الام في لوعة تتحدث عن العراق... لقد عايشت الحرب وبقيت في بغداد الى ما بعد التاسع من افريل 2003، تقطن بغداد في حي العامرية وهو حي استقبل في حرب الفلوجة الأخيرة عديد العائلات الفلوجية من النساء والاطفال، حسب ما قصه عليها ابنها... لقد امتلأ بيتنا بأربعة عائلات في الفلوجة، حسب ما قال لي ابني ذلك. السيدة إنعام العشي فلسطينية وتعمل في منظمة أهلية، استقبلت عديد العراقيات، ممن فررن من الاحتلال واعتداءات الاحتلال... لقد تحدثت هذه السيدة المتألمة عن العراق كما فلسطين، عن الازمات النفسية التي تتعرض لها المرأة العراقية زمن الاحتلال... كانت الصدفة وحدها هي التي جعلتني التقي بشابة عراقية باحثة في ماجستير، طلبت عدم ذكر اسمها ولا اختصاصها «حتى يتسنى لي الرجوع بلا مساءلة وفي امان».. تقطن في «المنطقة الخضراء» التي تحيط بالقصر الجمهوري المحتل الذي قطنه «بريمر» الى غاية يوم اسراعه بالخروج، واضطرت عائلتها الى مغادرة المنزل لان الموقع يرفضه عليهم الاحتلال... كان لقائي بها وهي تتهيأ لمغادرة عمان التي قضّت بها خمسة ايام باتجاه العراق عبر الطائرة سريعا، ومشحونا المعلومات التي حاولت من خلالها ان تجيب عن بعض من اسئلتي عن واقع العراق اليوم.. كان يوم الثامن والعشرين من جوان، وكنا نتابع معا «تسليم السلطة» من بريمر الى علاوي فآثرت ان نبدأ من ذاك المدخل، مدخل «السلطة» و»تسليم السلطة» والجيش الامريكي الذي سيتحصّن كما تقول هي وراء متاريس اسمها «الشرطة العراقية»... قالت وقد فهمت للتوّ انها تستهزئ نظرا الى مظهرها الجدي: «نحن اليوم استلمنا السيادة... ونتمنى ان تعود لنا كرامتنا ونتخلص من الجندي الامريكي ومن الطائرات التي تطلع فوق رؤوسنا وبيوتنا... دافعت الفتاة الجامعية التي بدت اللوعة والامتعاض تعتليان محياها وهي تحكي قصص الذي باع والذي خان والذي انحنى للعاصفة والذي صمد وقاوم وقال «حقي برقبتي» دافعت اذن عن المقاومة الحقة التي تستهدف الاحتلال، مؤكدة ان بعض ممارسات القتل التي تستهدف العراقيين انما هي من تدبير بعض العصابات المأجورة المكلفة بتأجيج نار الفتنة بين اهل العراق الواحد... واصلت محدثتي الشابة القول: ان مغادرة بريمر لا تعني نهاية الاحتلال، فقد غادر الحاكم المدني وبقي الاستعمار العسكري... نحن الآن تحت الاستعمار من خلال ال 150 الف جندي الذين سيبقون في كامل العراق... صنفت هذه الباحثة الجامعية التي عبّرت عن انكسار الذات العراقية على صخور الاحتلال والعجرفة واللاقانون، الاحتياجات في العراق عبر مراحل ثلاثة تبدأ من البسيطة منها الى المعقّدة... البعد الاول في هذه المتطلبات تقول محدثتي ينطلق من سأم الناس للوضع المزري والمخيف... الناس تعبوا من الحروب... العراقي يقول لك اليوم: اريد امنا... اريد ان اطمئن على ابني وهو راجع الى البيت وعلى ابنتي وهي ذاهبة او عائدة من الكلية... في هذا المستوى يرنو العراقي وبكل بساطة، ان يرى النور الكهربائي في بيته، خاصة والحرارة مشتدة، وان يرى الماء يجري من الحنفية. المستوى الثاني من المتطلبات ذي بعد سياسي، يريد العراقي ان يشهد بلده انتخابات عامة وشفافة وان تكون هذه الحكومة فعلا انتقالية او مؤقتة على ان لا تكون من ذاك المؤقت الذي يدوم. اما المستوى الثالث فإن العراقي يرنو من خلاله الى خروج الاحتلال كليا وان يعود العراق حرّا مستقلا... لكنها تردف ان الأبعاد الثلاثة مترابطة فيما بينها في جدلية محكمة لا يستقيم امر الاول بدون الثاني والثالث والعكس صحيح. تختم الباحثة العراقية التي ابت واسرتها ان يتبعوا الطريق السهل منزوع الكرامة ذاك الطريق الذ ي يجعل من العراقي تابعا بعد ان كان سيّد ترابه وسيّد ثرواته.. تختم بالقول: لقد تحوّلت بغداد الى مدينة اشباح... لا روح فيها ولا حياة... لم نتصوّر ان بغداد، تروح بهذه السهولة والعرب يتفرّجون علينا.. لقد قاوم الجندي العراقي والجيش العراقي، وحرّروا المطار بعد معركة تكبّد فيها الاحتلال ما تكبّد.. حُرّر المطار وطُرد الامريكان... فرحنا وبكينا من الفرحة وبنفس المشاعر... بغداد لم تسقط بغداد ما سقطت لكن بغداد باقية بنا وصامدة بأهلها... نحن اهلها... وعندما واصلت سؤالها عن صدّام: قالت صدّام اسير... والشرعية اسيرة وكل بلدي في الاسر ورهن الاعتقال لدى الاحتلال. لم تكن مشاعرها متباينة مع من التقت من العراقيين، او العرب الذين عاشوا مأساة العراق ومأساة بغداد يوم التاسع من افريل 2003 . السيدة الفلسطينية ام «الشاب الفلوجي» العنيد، عايشت هي الاخرى الحرب على العراق وعملية احتلاله... وهي وحدها القادرة على ربط ما يقع في فلسطين بما يقع في العراق... تتحدث كما غيّرها ممن قابلت في عمان، عن معركة المطار وعن القنابل العنقودية التي حسمت المعركة لصالح الاحتلال، وعن الضرب الامريكي القاسي الذي تعرّض له شعب العراق... وجند العراق... والحرس الجمهوري في العراق... لكن وبعد ان نعلم انباء هي في تطابق تام مع ما امكن ل «الشروق» استقصاؤه من قبل سواء عن طريق العائدين من العراق او من خلال لقاءات مع «شاهد عيان» في العراق لابدّ بعدها اذن ان نسأل عن مستقبل المقاومة في العراق، وما حقيقة الوضع في «سامرّاء» و»القائم». هذا ما سنحاول معرفته في عدد قادم..