بقلم الأستاذ: جمال الدين بوغلاب سؤال شدّ الجميع، واعتمل في كل الأذهان وتناقلته الألسن بصيغ تراوحت بين السر والعلن، كيف سيظهر هذا الطود العربي بين أيادي جلاديه؟ بأية صورة سيقدّم؟ وما هي ردوده؟ خاصة بعد حالة التيه التي صور بها لحظة تقديمه أول اعتقاله. لم يكن المقصود شخص الرئيس العراقي صدام حسين بل الرسالة أعمق وهو وقع الظهور في كسر شوكة الانسان العربي الغامض، المتناقض ما بين تسليم وإرجاء حينا ورفض لا مثيل له في مواضع أخرى، لكأن الجسد مواطن منها ما مات فيه الحسّ أو تخشّب ومنها ما لا يزال مثل آلة تعديل الأوتار. إذا كان الهدف الأول من هندسة «الظهور» هو نفسية الإنسان العربي وذهنيته في محاولة لكسب مزيد من مساحات التأثير داخل نفسية المثقف المتسيّس على وجه التخصيص واحراجه داخل بيئته بل وتعجيزه حيال النظرات الشاردة والأفواه الواجمة والأسئلة المكوّمة: حمل بالكاد تفقه معناها؟! إنها محاولة بتر دور التعقّل ومساحة العقلاء عن الجسم العربي المنهك تأمينا لدوام الحال لأقصى وأقسى مدى متاحا. ولكن الصورة ولئن كانت ملكا لمعدها ومخرجها فإنها صورة صورية حيث بدت أولى جلسات هذه المحاكمة في اخراجين: الأول كان صاحبه سلطات الاحتلال التي تحرّك المنفذين بموجب نصّ سابق التلقين ومن خلف «الشاهد». أما الاخراج الثاني فكان ملكا للمتهم، لصاحب الأرض حيث ولئن حرص على تقديمه في حالة امتهان إلا أن صلابته أفسدت «السيناريو» المعدّ سلفا. فجاءت المشاهد غير متوازنة ومعيبة ولا تستجيب للحد الأدنى من الاجراءات الشكلية لتأمين مبدأ قانونية المحاكمة، فكانت الوصمات. الوصمة الأولى من المبادئ القانونية الثابتة في كل المنطوق النصي، الفقهي أن تكون المحكمة معلومة المكان حيث تعقد الجلسات، فيتيسر الحضور سواء للمحامين أو للمواكبين والملاحظين وعلى حدّ علمي فإن هذه الخصيصة اللازمة انتفت، فغابت البناية كمكان معدّ لممارسة العدالة وهي سابقة جديدة في نظام قانوني عالمي جديد تأتي على الثوابت وأعمدة البنيان لا يمكن لرجالات القضاء والقانون السكوت عنها لأن المسّ بالشكل يحول دون التمادي في النظر في الأصل المستند أصلا إلى قرينة البراءة حتى في صورة الاعتراف إلى أن تتظافر القرائن والأدلة من أجل الإدانة. الوصمة الثانية أن يكون القاضي معلوما، فهو وسيلة الحق لاشاعة القانون وتأمين سيادته، ومتى غاب مجلس القضاء سواء في تركيبته الفردية أو الجماعية عن الظهور والتعرف عليه، يظل الاجراء باطلا لأنه لا يستند إلى معلوم ماثل يقع التعامل معه يستوي في ذلك أن يكون القاضي جالسا (جهاز القضاء) أو واقفا (جهاز النيابة والتحقيق). ومبدأ معرفة القاضي والقدرة على التعرف عليه يكتسي أهميته من مبدأ قابلية التجريح في القاضي من طرف المتهم أو موكله أو حتى تجريح القاضي في نفسه بما يحول دونه والتمادي في الاضطلاع بدوره في الملف، وللتجريح مبررات كرابطة القرابة أو الصداقة أو العداء أو أن يكون المتهم زوجا سابقا للقاضية وغيرها. ومبدأ «المعرفة» أو «التعرف» هذا لا يخص المتهم لوحده بل ينصرف إلى «عموم الخلق» ممن يعنيهم المتهم أو التهمة. الوصمة الثالثة إن أية محاكمة تستند إلى إحالة ونص. أما الإحالة فتحدّد الأساس القانوني المعتمد للمحاكمة والمحكمة المختصة. وأما النص فيحدّد الجهة القضائية مرجع النظر وكلا الاجرائين لم يقع احترامهما. إذ الإحالة كانت بموجب قرار يستند إلى القوانين الدولية والمعاهدات، فتم اقرار صفة أسير حرب، والتكييف لا يقبل التغيير والرجوع فيه ويرتب التزامات وهو ما لم تحترمه قوة الاحتلال. وأما النص الذي تتم به المحاكمة فمجهول وغير موجود. ناهيك عن تناول مسألة هوية المشرفين على المحاكمة ومسألة التثبت في هوياتهم وأحقية تواجدهم في تلك المواقع؟! ثم ان النظام القانوني العراقي السابق يمنع منعا باتا محاكمة رئيس الجمهورية ويوفر له حصانة دستورية بل يزيد من صلاحياته زمن الحرب. وعليه فالنظام القانوني العراقي خلو من أي أساسي يمكّن حتى من مجرّد السطو عليه وتحريفه للقيام بالمحاكمة؟! الوصمة الرابعة مبدأ العلنية، من أقدس مبادئ جلسات التقاضي لأن الجريمة إن وجدت وثبتت لا تهدف إلى الاقتصاص فقط بل إلى الردع والاخلال به يفقد المحاكمة شرعيتها وينال من حقوق المتهم ويهضم حقوق الدفاع. وإننا لا نعتقد أن شكل الظهور الذي جاء عليه «صدام حسين» سيشجع على إعادة جلسة أخرى وإن بهذا القدر المنتقى «المضطر» من الاجابات؟! والحالة ما ذكر فإنه على المجتمع الدولي وخبراء القانون أن يتدخلوا ليس من أجل الشخص بل من أجل حماية حرمة مبادئ التقاضي التي لها قداستها لأن المراد بهذه المحاكمة مزيد من هدر دم العرب بين قبائل العرب وجعل كيدهم في نحورهم لقلب المعادلة من الداخل لصالح العدو وهو ما لا يرضاه أي إنسان عاقل حرّ.