للمرّة الثالثة أعود الى مكتبه لاجراء مقابلة صحفية معه... في المرة الأولى حملت اليه مشهدا من المدينة أسأله عن قوالب السكر التي أصبحت تميّز البناءات الجديدة في المدينة... لتجاور بزيّها البلوري المدينة العتيقة والمدينة الاوروبية فكان السؤال شبه نبش في جرح بالنسبة له... ليؤكد أن المشهد المعماري للمدينة تكسوه فوضى غير مقبولة. عدت الى مكتبه بعد حوالي سنة وفي دفتري سؤال آخر عن تخطيط المدن وعن أهمية المخططات المرورية التي تفتقد اليها تقريبا أغلب البلديات في الوطن... حينها لم يتردد محدثي في اقتراح مدينة النفيضة كعاصمة ادارية وسياسية بديلة لتونس بعد أن استنفدت العاصمة أنفاسها في تولّي هذا الدور. هذا المقترح أوردته «الشروق» في صفحتها الاولى في عددها الصادر يوم 30 جوان 2008. مقترح جرّنا الى العودة الى مكتب المخطط العمراني الدكتور عيسى البكوش نائب رئيس جمعية مخططي المدن للمرة الثالثة نسأله هذه المرة عن صدى المقترح وعن آفاق المدن التونسية في السنوات البعيدة القادمة... فتحدث عن الحجر والانسان وعن ملاءمة مفقودة في مدن تونس بين الحاجيات والمتطلبات. حوار أسماء سحبون أثار مقترح الدكتور عيسى البكوش حول نقل مركزية القرار السياسي والاداري الى مدينة النفيضة لاعتمادها كعاصمة بديلة الذي أوردته «الشروق» منذ أكثر من عام ردود أفعال كثيرة... كانت وراء ترجمة المقال عن «الشروق» الى أكثر من لغة منها الفرنسية والايطالية والألمانية والاسبانية. كما كان المقترح محور لقاء أجرته اذاعة بي.بي.سي البريطانية مع ضيفنا الدكتور عيسى البكوش. هذا المقترح عاد للظهور مجددا نهاية شهر أوت الماضي في مجلة «جون أفريك» في ركن «تأمّل»... بقلم الدكتور عيسى البكوش هذه المرة. لماذا عاد المقترح؟ هل هي قناعة منه بيسر تطبيق هذه الفكرة أم بضرورة تنفيذها انقاذا ل «دور» العاصمة بعد تزايد الضغط على العاصمة الحالية بسبب التوسع العمراني وزيادة حركة المرور؟ أم أن نشر هذا المقترح مجددا ملمح من ملامح مروره نحو التنفيذ؟ عاصمة تونسية لماذا العودة الى الحديث عن مقترحكم من جديد؟ وهل هناك تفاعل رسمي مع هذه الفكرة؟ يردّ الدكتور عيسى البكوش دون تردّد «لأننا نريد عاصمة يبنيها تونسيون». قال وهو يتحدث عن العواصم الثلاث السابقة للبلاد وعن عاصمتها الحالية «سنمازح التاريخ لندقق قليلا في هويّة من أسس العواصم الأربع المتلاحقة للبلاد... العاصمة الاولى، قرطاج، أسّستها عليسة المرأة القادمة من المشرق والعاصمة الثانية، القيروان، أسسها عقبة ابن نافع القريشي القادم من الجزيرة العربية والعاصمة الثالثة، المهدية، أسسها عبيد ا& القادم من المشرق والعاصمة الرابعة، تونس، البالغ عمرها الى حد اليوم ثمانية قرون أسسها الموحدون (أبو زكريا الحفصي وعبد المؤمن) سنة 1228 وبالتالي يثبت التاريخ أن العواصم الاربع أسسها أجانب ولم يؤسسها تونسيون...». ويضيف «سنمازح التاريخ ثانية حين نقول إن التونسي الوحيد الذي أسس مدينة عاصمة هو المعز لدين ا& الفاطمي رابع الامراء العبيديين حين أسّس القاهرة سنة 972 ميلادي. وحان الان الوقت ليؤسس التونسيون عاصمة أخرى بديلة لهم بعد أن استنفدت العاصمة الحالية دورها كقطب للقرار السياسي والاداري». ويقترح محدثنا الدكتور البكوش المختص في التخطيط العمراني النفيضة عاصمة بديلة جديدة نظرا لتوفر البنية الأساسية اللازمة لتكوين مدينة جديدة.. متمثلة بالأساس في توفر مطار هام سينطلق نشاطه قريبا بعد استكمال انجازه.. سيؤمّه سنويا حوالي 25 مليون مسافر. كما ستضم النفيضة قريبا ميناء للمياه العميقة مخصص للبواخر التجارية العملاقة وبالتالي توفر للمدينة ركنان أساسيان لتميزها ولنقل مركز الثقل لها لاعتمادها كعاصمة جديدة. وجه المدن الى جانب البنية الأساسية قال محدثي الدكتور عيسى البكوش الذي «يلتحف» في مكتبه بصورة ملتقطة عبر الأقمار الصناعية لمدينة أريانة في مشهد معماري تشوبه الفوضى إن النفيضة يساعدها التاريخ والجغرافيا لتكون عاصمة. تربط المدينة التي تحمل تسمية «دار البَيْ» حسب قوله كل الطرقات فهي قريبة من كل الوطن إذ تتميز بموقع جغرافي متميز يرشحها لأن تكون عاصمة. أما بالنسبة للتاريخ تقول الأحداث إن الاستعمار الزراعي دخل الى تونس عبر بوابة النفيضة بعد أن ابتاعت شركة استعمارية هنشيرا كبيرا في النفيضة من المصلح خير الدين باشا وذلك أواخر سبعينات القرن 19 قبل مغادرة خير الدين تونس عام 1878. ويؤكد الدكتور عيسى البكوش أن تونس الحالية غير قادرة على القيام بدورها كعاصمة في عصر السيارات والشبكات خاصة وأنها تبلغ من العمر 8 قرون.. مشيرا الى قناعته بأهمية وحتمية نقل العاصمة الادارية والسياسية الى النفيضة مع الإبقاء على مدينة تونس كعاصمة روحية للمسارح ولجامع الزيتونة وكعاصمة اقتصادية. نمرّ الى سؤاله عن الوجه الحالي للمدن التونسية نستشرف نظرته لتلك المدن في السنوات القادمة فلا يتردد في القول ان مدننا فيها نوع من عدم الملاءمة بين الحاجيات والمتطلبات وأنه أصبح من الضروري بعث مرصد للإعمار والمعمار لإعداد تقارير سنوية حول تلك المدن ولإعطاء فكرة عن الاخلالات الوظيفية بها. ويشير محدثي الى أن تخطيط المدن يتطلب بالأساس تظافر عديد الاختصاصات من ذلك التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم النفس لخلق توازن بين حاجيات المدينة ومتطلباتها.. من ذلك توفير الخصائص الوظيفية للسكن والشغل والترفيه والمحيط وللموتى أيضا. الحجر والبشر 55 شابا تونسيا فقط يحملون شهادة الاختصاص في التخطيط العمراني.. لأن الاختصاص تمّ إدراجه حديثا ضمن التكوين الجامعي حسب ما قاله الدكتور البكوش. ويشير محدثنا الى أن هذا الاختصاص مطلوب جدا اليوم خاصة وأن كل البلديات التونسية والبالغ عددها 265 بلدية ليس لها أي مخطط عمراني.. بالاضافة الى غياب التنسيق بين مختلف الهياكل المتدخلة في المدن مثل شركتي الكهرباء والماء وديوان التطهير، ويطالب ببعث هيكل للتنسيق في كل مدينة لتعزيز جانب اليقظة لحماية وجه المدن والمحافظة على مواقع الذاكرة والتصدي للبناءات البلورية التي ثبت في أوروبا خطأ اعتمادها لأنها تستهلك الطاقة.. ويؤكد الدكتور عيسى البكوش أن الاختصاص حديث أيضا في الغرب.. مبرزا التوجه نحو تركيزه واعتماده. وذكر ل«الشروق» أن وزير التجهيز والاسكان السيد صلاح الدين مالوش التقى ممثلي جمعية مخططي المدن يوم 31 ديسمبر 2008 لاعلان رغبة الوزارة في التنسيق مع الجمعية وقد قامت الوزارة بالتوازي بفتح مناظرة لقبول مخططي المدن تم من خلالها قبول مخططي مدن من خريجي الجامعة. كما أوضح ضيف «الشروق» المخطط العمراني عيسى البكوش ونائب رئيس جمعية مخططي المدن والأمين العام المساعد لاتحاد الطلبة خلال الفترة 1968/1971 أن تأهيل المدن يعني بالأساس تأهيل الحجر والبشر.. في إشارة منه الى أن المدينة هي البناءات والمساحات الخضراء والانسان في الآن نفسه ووجب حسب قوله عمل الكثير لتثمين تاريخ المدن ونفائسها وفي الآن نفسه تأهيل الانسان أي المتساكن «المدني بطبعه» كما يقول العلامة ابن خلدون.. موضحا أن الغرب هم من يهتم اليوم بحضارتنا وتاريخنا لكننا في تونس لا نهتم سوى بفترة الفتح الاسلامي وباتت الحاجة اليوم الى ضرورة استيعاب كل الفترات التاريخية للمحافظة على نفائس مختلف مراحل التاريخ في المدن.. مرتكزا في ذلك على شهادة وزير الثقافة الفرنسي السابق موريس دي ليون «يكفيك في تونس أن تنحني قليلاحتى تعانق التاريخ».