جاء في إحدى الحكايات العائدة إلى القرن الرابع للميلاد أنّ الحبرين حناني وهوشيا أتقنا مؤالفة الأحرف بشكل مُعيّن حتّى تمكّنا من خلق عِجْلٍ عمره ثلاث سنوات تعشّيا به. وهي حكاية لا أرى مانعًا من تحويل وجهتها ناحية الذهنيّة التي تحكم بعض المتكلّمين في الشعر والأدب والفنّ هذه الأيّام، كما تحكم بعض مُعدّي الأنطولوجيّات. إذ ليس من عمل لهؤلاء، كما يبدو، سوى إعادة إنتاج الأمر نفسه. خواطر راودتني أمام صراع الدِيَكَة المُتفشّي هذه الأيّام في الكثير من الصحف والفضائيّات ومواقع الأنترنات العربيّة، والمتجلّي أيضًا في عدد من الأنطولوجيّات، بين مُتطاوسين يُلغي بعضُهم بعضًا، منتصبين للإفتاء في الشعر والأدب والفنّ دون شيء من تعليل أو تحليل، وكأنّنا أمام مُلهَمين يتكلّمون عن وحي، أو طُغاة يستمتعون بضرب الأعناق، أو نُسخ جديدة من رضوان المعرّي، واقفين على باب الجنّة الثقافيّة، واضعين مفتاح الخلود في جيوبهم، موزّعين التذاكر والشهائد على «كيفهم»، فهذا شاعر والآخر شويعر، وهذا أديب وذاك أويديب، وهذا سلطان والآخر سَرَطان، وهذا مدعوٌّ إلى فردوس الأنطولوجيا والآخر مطرود إلى جحيم النسيان. منصّبين أنفسهم على رأس كلّ شيء، على رأس الشعر والأدب والمعرفة والفنّ وحتى الوطنيّة، مستكثرين على الآخرين الهواء الذي يتنفّسونه. لابدّ من الإشارة هنا إلى ضرورة حفظ الاستثناءات واحترام المقامات والابتعاد عن التعميم. إذ ليس من شكّ في وجاهة نصوص وآراء كثيرة لأساتذة ونقّاد وفنّانين وإعلاميّين مبدعين ومجتهدين. وليس من شكّ أيضًا في ظهور كتابات نقديّة وأنطولوجيّات مُوَفّقة لا تدّعي الكمال لكنّها لا تصفّي حسابًا ولا تنتصب خصمًا وحكمًا في الوقت نفسه. أمّا التصريحات الناريّة التي تكشف خلاصتُها عن رغبة في تغييب الآخرين للاستفراد بنجوميّة وهميّة، وأمّا الأنطولوجيّات المغرضة التي تتمترس خلف دال الدكترة أو شين الشعرنة ولا يتورّع أصحابها عن إدراج أسمائهم ضمن «قائمة المُختارين»، فهي في الأغلب فساد يعجز عن النجاح في الاقتصاد والسياسة فيفتح له دكّانًا في الفنّ أو الأدب ويبدأ برشوة التاريخ وتبييض الكلمات على غرار تبييض الأموال. تنظر إليها عن كثب فتخشى أن ترى وراءها تُجّارًا مُفلسين نفدت بضاعتهم فلاذوا بالفضيحة كي «يروج الاسم»، أو أدعياء مكلومين لم يجدوا غير تلك الطريقة لتتويج أنفسهم رؤساء طوائف أدبيّة. تنصت إلى أحدهم أو تقرأ لأحدهم فتسمع وتقرأ من الحسم والجزم ما يجعلك تسأل: من أين أتوا بهذه الأحكام المسلطة والآراء الحاسمة، وكيف هان عليهم أن يبيعوا حيرتهم المُلهمة وشكوكهم العظيمة كي يشتروا برد اليقين وصقيعه؟ لكأنّ الأغنية أو القصيدة أو الكتابة أو الواجهة الإعلاميّة لم تكن في نظرهم سوى وسيلة لامتلاك السلطة واستغلالها بفحش عند أوّل فرصة ولو على نصوص وكلمات وأنغام. معيدين إنتاج الذهنيّة التخوينيّة التكفيريّة الاستبداديّة الإقصائيّة التي يتشدّقون بمحاربتها باسم الجرأة والابتعاد عن اللغة الخشبيّة والانخراط في الحداثة. وكأنّهم غير واعين بخروجهم من فضاءات السؤال والنقد والفقدان والانفتاح على الممكن، إلى مضائق الهيمنة والسيطرة والحكم على الحاضر بالقياس على الغائب، وهي مآخذهم عادةً على السلاطين والفُقهاء. ولعلّ مصيبة حداثتنا تتمثّل في أنّ كثيرا من هؤلاء المتشدّقين باسمها لا يملكون منها سوى الطلاء. فإذا نحنُ أمام مُتزمّتٍ في زيّ شاعر أو ناقد أو مغنٍّ، يتكلّم في الثقافة وكأنّه صاحب سلطة أو علم لدُنيّ، معيدًا إنتاج ذهنيّة «زميله» المتكلّم من على عرش أو منبر أو من وراء إحدى الشاشات. وكأنّ فضائيّات الإفتاء لا تكفي أو أنّ عدواها تفشّت في سائر المنابر، فإذا نحن نكاد لا نقرأ ولا نرى ولا نسمع إلاّ الفتوى والفتوى المُضادّة بداية من الأحاديث الصحفيّة والكتابات النقديّة مرورًا بالمنوّعات البيزنطيّة وصولاً إلى الأنطولوجيّات العمياء. من ثمّ زعمي بأنّ «فقهاء الأدب والفنّ» قد يكونون أحفاد حناني وهوشيا. مع ضرورة الإشارة إلى فارق مهمّ: أنّ حناني وهوشيا كانا يؤالفان الأحرف طمعًا في عِجْلٍ حيوانيّ، ولعلّه في سياق آخر عِجْل ذهبيّ، أمّا «فقهاء الثقافة» فالأرجح أنّهم من أكلة لحم البشر، لا يؤالفون الأحرف في مذابحهم الإعلاميّة وفي مجازرهم الأنطولوجيّة إلاّ كي يتغدّوا ويتعشّوا بلحم زملائهم من الشعراء والأدباء والفنّانين الموتى والأحياء. وليس هذا من الحداثة أو الإبداع في شيء.