بقلم: محمد الغزي يذهب الناقد الاردني فخري صالح الى أن شعر الشابي الذي تحدّر من شعريات مختلفة إنما هو بحث مُمضّ من أجل القبض على «العلاقة العضوية التي تلحم التاريخ بالوجود»، وامتلاك «النار البرومثيوسيّة» والظفر «بالمعرفة الازلية». ذلك أن غاية الشابي، جريا على المبدإ الرومانسي، هي «تحويل مادة الواقع الى شعر طالع من فعل الخلق، بوصفه وظيفة الروح والعقل، في محاولة للعثور على وحدة سرية خفية ملغزة بين العقل والواقع». في هذا السياق من التعلق بالشعرية الرومانسية والاقامة في حدود التعبير المثالي عن العالم وتجربة الوجود يبدو الشابي في الظاهر، لا على الحقيقة، بعيدا كل البعد عن تجربة الشاعر الحديث، ويبدو نصّه منبتّا عن حاجات الشعر في الوقت الراهن. لكن هذه القراءة، تبقى في رأي فخري صالح، غير تاريخية لأنها تسقط من حسابها «تاريخية العلاقة بين النص الشعري وزمنه، بين الشاعر وسياقه الثقافي». والواقع أن نص الشابي «كان علامة فارقة في نقل مفهوم الشعر ووظيفة الشاعر من تقليد الميراث الشعري الى البدء من جديد». في هذا القطع مع التقليد تكمن حداثة الشابي الشعرية والثقافية، أي في دوره التاريخي في تحويل مسار الكتابة الشعرية العربية، وتفتيح الاعين على نص مغاير، خلاّق يقوم على مبدإ الانقطاع والتجاوز لا على عقيدة المحاكاة والتقليد والايمان بثبات العالم «وهذا ما ينبغي أن نستبقيه من الشابي، في زمان يتقهقر فيه الشعر، ويضعف الخلق، ويعاني العرب وجودا مأزقيا، يكاد يعصف بهم. ويؤكد الناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي أن الشابي كان من أوائل الشعراء الذين فتحوا الواقعي على الخيالي، والخيالي على الاسطوري فكفّ الشعر «عن كونه مجرد وصف ليصبح عبارة عن كشف لما تستّر وتحجّب» مع الشابي أصبح الشعر لا يصف الواقع وإنما ينتشل الاشياء والموجودات مما طالها من إفقار فيثريها ويعيد اليها حقيقتها التي نسيها الانسان المعاصر لأنه إنسان ضائع في الموجود، شغله هذا الموجود عن صميم الوجود فلم يعد يرى الحقيقة المحجّبة. الناقد البحريني علويّ الهاشمي اعتبر الحداثة «تأسيسا لذاكرة جديدة تنطلق خارج الذاكرة القديمة»، مؤكدا أن براعة الشابي تكمن في لعبة اللغة يفكّكها ويؤسس بها ومنها وفيها حداثته، وتتجلى هذه البراعة أقوى ما تتجلى في الايقاع... هذا الايقاع هو الذي يسّر للشابي، في نظر علوي الهاشمي، الوصول الى الوطن العربي. ثم ألمّ الناقد بوجوه المناسبة التي تجمع بين شعر الشابي وشعر علي العريض الشاعر البحريني، وهذه الوجوه، حسب عبارته، غير خافية وتقع في أكثر من مفصل. ونبّه الناقد السوري ثائر ديب الى ضرورة مراجعة الكثير من المسلّمات حتى نستطيع الاحاطة بحداثة الشابي من هذه المسلّمات باعتبار رومانسية الشابي رومانسية «غربية» تحدّرت من التقاليد الادبية الاوروبية لفظا وعبارة وأسلوبا و«دعوة الى الطبيعة وإصغاء الى النفس» والحال أن رومانسية الشابي قد ظهرت في سياق مختلف تاريخيا واجتماعيا وثقافيا عن سياق الرومانسية الاوروبية. للشابي رومانسيته المخصوصة التي قالت لحظته التاريخية، وتجربته الروحية، رومانسية تشكلت ملامحها من شعريات مختلفة قادمة من أزمنة عديدة، وينابيع شعرية شتّى. وتأمّل الناقد التونسي عمر حفيّظ ممارسة الشابي الكتابية وهو، كما نعرف، ممارسة متعددة جمع فيها أبو القاسم بين كتابة الشعر والتأمل النقدي والتفكير في بناء الخطاب الشعري... لكن الامر الذي لفت انتباه الناقد هو إقدام الشاعر على محاورة الأدب العربي القديم ومساءلته. ولهذا التوجّه رمزيته فالمنجز الذي خصّه الشابي بتأملاته هو الشعر العربي القديم وهذا يعني أن سؤال الشعر يحتاج، باستمرار، الى إعادة بناء بما يقتضيه الزمن المعرفي من تعيين للحدود، وترتيب للعلاقات بين الانسان واللغة والعالم... هذا إلمام سريع ببعض الاوراق التي قُدّمت في هذه الندوة والتي أجمعت كلها على أن شعر الشابي كان اكتشافا للزمن في صيرورته وتحوّله... وفي هذا خروج على منطق الدهر وفكرة الجواهر الثابتة، وانتساب الى منطق التاريخ والاعراض المتحوّلة.