بندوة عربية كبرى اختتم بيت الحكمة الاحتفالات التي أقامتها وزارة الثقافة والمحافظة على التراث بمناسبة مائوية الشاعر أبي القاسم الشابي، وقد دارت كل أوراق الندوة حول «حداثة الشابي» تتأمّل مختلف تجلّياتها. ولئن اتّفق كل النقاد على أن شعر الشابي مثّل حدث خروج وفعل تأسيس، خروج عن سلطة الأنموذج الذي أثّل في الشعر العربي تقاليد في الكتابة استحكمت صورها بالعقول والأذهان، وتأسيس لشكل من الكتابة جديد فإنهم اختلفوا في تحديد مظاهر الخروج ورصد أشكال التأسيس. الأستاذ حمادي صمّود لاحظ وهو يُعيد النظر في مُدوّنة الشاعر أن المواد التي استخدمها الشابي «ليس منها ما لم يستعمله الشعراء من جيله، وحتى من قبل جيله» فإيقاعه الشعري، وكذلك الصور التي عمّرت فضاء قصائده والأساطير التي استدعاها، والمعجم الشعري الذي قدّمته ملامح قصائده وملامسها مواد عادية لا يمكن بالنظر اليها منفصلة أن تولّد «هذا التفوّق، وتعطي هذه المكانة» والواقع أن قيمة شعر الشابي تكمن في تزاوج هذه الاخلاط وتمازجها أي تكمن في هذه الكيمياء الشعرية التي لا يعرف سرّّها الا «من انفتحت أمامه مدارات الشعر القصية، ومكّنته ممّا لا تهبه إلاّ لقلة القلّة من أفذاذ الموهوبين». والى الموقف نفسه جنح الكاتب السعودي سعيد السريحي الذي اعتبر حداثة الشابي حداثة لغوية في المقام الأول، لهذا دعا الى الانعطاف على لغة الشاعر بالنظر «تلك اللغة التي تكشف عمّا كانت تتّسم به تجربة الشابي من قلق وتوتّر يشوب علاقته بالعالم من حوله على نحو لا يُمكن لنا معه أن نحدّد هذه العلاقة فهي علاقة حب وكره وهدم وبناء»، ففي قمة تغنّي الشاعر بجمال العالم تنكشف، في نظر الناقد، رغبة دفينة في فضح ما يتخفّى خلف ذلك الجمال من قبح على «نحو لا يغدو فيه الجمال جمالا صافيا ولا القبح قبحا صرفا، بل هما حالتان تتناوبان العالم في لحظتين متعاقبتين تشكّلان مصدر شقاء الانسان وسعادته في آن». أما الناقدة اللبنانية زهيدة درويش جبّور فقد أوضحت أن الحداثة ليست زمنية بالضرورة بل معيارها طبيعة التجربة، وأول ما يلفتنا في هذا السياق عند الشابي هو تعريفه للشعر بأنه «يقظة احساس» وهذا المفهوم بدا للناقدة «حداثويا» بامتياز «ذلك أن الاحساس هنا لا يقتصر على الشعور بل يتجاوزه الى وعي الذات لذاتها كحضور فريد، وللعالم من حولها كوجود مليء بالغموض والأسرار التي تدعو الى اكتشافها، مما يجعل من التجربة الشعرية توقا مستمرا الى المجهول». ويستدرك الناقد أحمد الجوّه على الأوراق السابقة ليؤكد أن حداثة الشابي لم تكن منشدّة الى الأنموذج الغربي تحاكيه وتحاذيه وإنّما تكمن في تحفيز بنية القصيدة التقليدية، وفي تحريكها لإيجاد الابدالات، وفي دفعها الى أقصى ممكناتها «فلئن شاع أن تحديث القصيدة العربية يقتضي بالضرورة الخروج على منوال القصيدة العمودية فإن التحديث قد يكون أيضا بمفاوضة هذا المنوال الشعري، وبدفعه في مسالك أخرى فلا يكون احتذاؤه آيلا الى تنميط المنوال بل ان النسج على هيئته يُولّد ابدالات يتأكد بها التحديث وتبرز بها نتائج التفاوض بين الشاعر وما استقرّ من ابنية الشعر». ويذهب الناقد المغربي خالد بلقاسم الى أن قيمة الشابي تجسّدت أساسا في انخراطه في أسئلة الشعر كما صاغتها موجة التجديد في زمنه، وفي وعيه بضرورة التصدي للتقليد، وفي انفتاح الشكل الكتابي عنده على ما أرساه شعراء الرومانسية في المهجر وتخصيب الخيال بمورد أسطوري سحيق الغور في الثقافة الانسانية، ذلك كله يسمح بتسييج الزمن الشعري في هذه التجربة، ضمن الزمن الرومانسي كما استوعبته الثقافة العربية الحديثة لأن هذا الزمن ظل إذا استثنينا تجربة جبران، منفصلا، من حيث الخلفية الموجهة له عن تجربة مثيليه الألماني والفرنسي... وللحديث بقية.