وكان الشاعر عبد الرحمان الأبنودي، من أبرز فرسان السيرة الهلالية والذي أفنى جزءاً كبيراً من عمره في جمع وتحقيق السيرة متنقلاً بين ربوع مصر والعالم العربي ووصولاً إلى دول أفريقية. «إيلاف» التقت الأبنودي الذي بادر بالقول: منذ سنوات وسنوات، ومنذ أن بدأت تتكشف أمامي جوانب هذه الملحمة، وروعة شعرها، وتعدد حوادثها ، وخروج أجيال من أجيال، كان جل ما يؤلمني أنني غير قادر على أن تشاركني الناس الاستمتاع بهذا العمل الفني الشعري العظيم. • وما هي سر عظمته؟ أنه عمل شعبي خالص، أشبه بالمعجزة، كتبه بسطاء من بين الناس أنفسهم. وكنت قد قدمت لفترة طويلة جدا من خلال الراديو حين كان الأستاذ فهمي عمر أطال الله في عمره مديرا لإذاعة الشعب، وبصفته صعيدي يعلم كيف تتجمع جماهير البسطاء والمتعلمين حول هذا العمل العبقري، وقدمت من خلال الاذاعة «عم سيد الضوي» ثم «عم جابر أبو حسين» شاعر الشعراء، وكنت قد سجلت معه العمل لمراحل طويلة، وعلى الرغم من أن إذاعة الشعب، كانت تصل بصعوبة بالغة إلى الصعيد والوجه البحري، إلا أن الناس، كانت تتحايل للحصول على إرسالها في فترة البث، ولا زلت أحتفظ بمئات الخطابات، ولو حسبتها بعدد الموقعين عليها لصارت آلاف، فقد كان يرسل الرسالة الواحدة نحو 80 مستمعا مجتمعين، بعضهم كان يرسل الخطابات باسم الدولة، يشكرها لأنها أتاحت لهم الاستماع إلى ملحمتهم. • هل لازلت تذكر شيئاً من هذه الرسائل؟ أذكر رسالتين ما زلت محتفظاً بهما إحداهما من باعة الخضار في سوق مرسى مطروح (شمال غرب القاهرة) عليها حوالي 80 توقيعا، كتب على المظروف :يسلم إلى «الشيخ عبدالرحمان الأبنودي»! فلم يكن وجهي معروفا من خلال شاشة التليفزيون، فاعتقد الناس، أنني شخص معمم مثل شعراء الهلالية، وأني أتخذ مظهر المشايخ وحفظة القرآن الكريم. أذكر رسالة ثانية من سجن وادي النظرون، يقولون ما نصه، إنه منذ إذاعة هذه السيرة، فإن السجن لم يعد سجناً، وبعد أن كنا نعيش على أمل الخروج، أصبحنا نعيش على انتظار العاشرة مساء. • لماذا ارتبط الناس بالسيرة الهلالية إلى هذا الحد؟ هذا معناه أن العمل متغلغل في شرايين الأمة، وذلك لأنه ينقلهم إلى عالم من النقاء العربي، وإلى كل القيم المهدورة في عالمنا المعاصر، ومنها البطولة والشجاعة، والحب والتضحية وحب الوطن، وفي نفس الوقت يفضح كل القيم الفاسدة، مثل الخيانة والتخاذل، وسرقة النصر (مثلما فعل دياب ابن غانم، في سرقة نصر أبوزيد وغيره)، لكن المهم أن هذه الملحمة هي حلم دائم، ينتظر بطلاً قومياً يوحد هذه الأمة، ويقودها نحو تحقيق أهدافها. من الجانب الآخر، أنها من الوسائل التثقيفية النادرة في حياة الناس، قبل أن يظهر التليفزيون والراديو ويمتلآن «بالكلام»! • ألهذا الحد ارتبط العرب بالشعر المُغني؟ يا سيدي.. الشعر كان له وظيفة عند الفلاح، تقترب من قيمة شيخ المسجد، والمحراث، والساقية، أي أنه كان من ضرورات الحياة، إلى جانب العنصر الروحي، الذي يهون عليه وعورة الجانب العملي في حياته. • ألم يكن في الأمر مشقة عليك وأنت تجمع هذا التراث؟ لقد أنفقت أكثر من ثلاثين عاماً في جمع هذه السيرة مُغناة ومروية، بل أظن أنني منذ عام 1967 وأنا في حالة دأب وعمل متواصل على هذه الملحمة. وهذه الجرأة في إطلاق هذه الملحمة على هذا العمل، أنها قصيد عربي ينازل فيها الأبطال، أبطالاً آخرين، وفي «الالياذة» نجد الأبطال تقاتل الآلهة، وهذا لا تسمح به تقاليدنا، ولا أدياننا، أما في السيرة الهلالية، فالفرسان تحارب شياطين وسحرة، قابلين للتشكل على هيئة مخلوقات عجيبة. • هل أخذ ذلك النوع من الفن حقه في الدراسة والتحقيق؟ نحن ظُلمنا ظلماً شديداً، أوقعه علينا المستشرقون، وأجدادنا علماء اللغة والأدب القدامى، الذين اختاروا من الشعراء، الشعر الذي أعترف به في قبائلهم، أما الناس ( الشعب) ، فقد أهمل أدبهم اهمالاً شديداً، وهؤلاء كانوا يتسامرون،ويعيشون على ذكر أيام حروب العرب، فكانوا يشكلوا ما يشبه الملاحم. يتهمنا الآن المستشرقون بأن شعرنا العربي، مجرد شعر غنائي، وقصائد متنافرة، وأنه يفتقد الشعر الملحمي والدرامي، أي لم يكن لدينا ملحمة أو مسرح. وفي الواقع كان هناك ملاحم مثل: الزير سالم، وسيف بن زيد يزن، وعنترة، وغيرهما من قبل الإسلام، وإذا كانت قد جاءت إلينا و فصَّحها» بعض المرتزقة، لأنهم كتبوها بالفصحى الركيكة، ونحن نعرف أن الأدب الشعبي يتناقل بين الأجيال، ويزحف للأمام، من خلال الانتقال «الشفاهي» يزيد أو ينقص حسب تطور كل جيل، وحسب المزاج الشعبي من جيل إلى جيل، ومن زمن إلى زمن، لكن الشاعر المصري الشعبي ظل يحتفظ بهذه السير، وينشدها على الطريقة التي استمع إليه فيها المستشرقون، وكتبوا عنها في القرنين الماضي وقبل الماضي. ولكن مع الزمن بدأت معظم تلك السير تتآكل تبعاً لاحتياجات المجتمع، فالمجتمع لم يعد قادراً على استيعاب فكرة العبد الذي يريد أن يصبح سيداً (كما في عنترة)، ذلك لأن التطور نسف الموضوع برمته، وبالتالي لم يعد للإنسان المستمع مصلحة، في أن يستمع لهذا العمل، حتى بالنسبة للزير سالم، كانت القضية ثأرية، ورغبة الزير في أن ينتقم لمقتل « كليب» فهذه أيضا مشكلة قبلية ضيقة. وهكذا بدأت تزيل هذه السير، ولم يتبق منها سوى أطراف باهتة، جمعتها من بعض عمال في مناجم طرة والوجه البحري، وذهبت هذه السير، ولم تظل على قيد الحياة، سوى سيرة بني هلال «السيرة الهلالية» ، ولولا أهميتها لجمهورها، ما كنا نعثر على شعراء لها، مع وجود «جابر أبو حسين» و «سيد الضوي» وهما من أصحاب المواهب الحقيقية، والجمهور الأصيل الذي حافظ على حياة الشعر والشاعر، بقروشه القليلة على مدى 800 عام(!) • ولكن هناك من يزاحمك على امتلاك الهلالية؟ قبل أن أبدأ بنداء خاص وذاتي في جمع سيرة بني هلال، لم يكن سبقني في ذلك سوى، عمنا الدكتور عبد العظيم يونس في رسالته عن بني هلال، وكان الرجل يعرف أنه يشتغل على النص الفصيح (المكتوب)، ولكنه كان يعلم أنني أعمل على نصوص شعبية، حقيقية للمرة الأولى، وكنت كلما أجمع طرفاً من السيرة، أذهب إلى منزل د.يونس، بصحبة الشاعر سيد خميس وبعض أصدقائنا، وأسمعه ما جمعت، وهو الذي امتحنني في اختبار تمهيدي الماجستير، وسألني سؤالا لا أظن أن أحدا ممن يدعون الآن اهتمامهم المتكلف، المفتعل، بسيرة بني هلال، يعرف إجابته، ولقد سعدت جدا أن وجدته يمنحني الدرجة النهائية. وملخص الأمر أنني سعيد وفخور الآن، بأنني وراء كل هذه الثرثرة عن السيرة الهلالية! وهؤلاء الذين يفرضون شعراء بعملية تشبه «الولادة القيصرية» أنهم يأتون بشرائط الشاعر العظيم «جابر أبو حسين» ، وأنا الذي شرحتها له! • لقد وصل الأمر إلى أن البعض أرسل إلى اليونسكو لتبني ما كتبوه عن السيرة الهلالية؟ هذه أكبر عملية خداع، تم بها الاستيلاء على أموال اليونسكو، ولن أسألهم ماذا فعلوا بها، وماذا حققوا بالمبلغ الذي حصلوا عليه (240 ألف دولار) ، فنحن لم نر غير محاولة اغتيابي في ندواتهم، ومحاولة النيل من النصوص التي أخرجتها في ثلاثة مجلدات، سوف يستفيد منها شعراء المستقبل في استلهام التراث، وسوف أبقى أنا جامع وشارع السيرة الهلالية ولو كره الحاقدون! وهم يقولون إن الأبنودي يهيمن على السيرة الهلالية، ويتناولون مقالاتي النقدية عن السيرة، كأنهم هم الذين خاضوا التجربة، رغم أنهم تربويون يعلمون الشاب مبادئ الملكية الفكرية. ويختتم الأبنودي كلامه قائلاً : أنا سعيد أن أصبح في العالم العربي الآن «موضة» اسمها «السيرة الهلالية». وهي موجودة بشكل أو بآخر في ليبيا، السودان، تونس (جمعها هناك الأستاذ عبد الرحمن جيجا). وفي الجزائر، كما جمعتها باحثة أمريكية من أطراف حدود تشاد ونيجيريا، أما مصر فهي تتميز بأنها البلد الوحيد التي ينشد شعراؤها هذا العمل العبقري، وإن كانت هناك أطرافاً منها تنشد فن الجماهيرية الليبية. • وهل تحويلها إلى عمل تليفزيوني أضاف لها ؟ طبعا يا صديقي، فالآن أصبحت السيرة الهلالية موثقة بالصوت والصورة، لأجيالنا القادمة. نظرا للنجاح الذي لاقاه البرنامج الوثائقي «سيرة بني هلال» للشاعر الكبير عبد الرحمان الأبنودي وآخر رواة السيرة الهلالية «سيد الضوي» على القناة الأولى بالتليفزيون المصري، قرر وزير الأعلام أنس الفقي، إعادة بثه مجدداً، وقال الفقي، إن برنامج «سيرة بني هلال»، الذي أنتجه قطاع الأخبار أول توثيق مرئي ومسموع لواحدة من أهم الملاحم العربية والإنسانية وأكثرها اكتمالاً وبقاءً، وهي إلياذة العرب، فبينما انقرضت سير عربية كثيرة، عاشت ملحمة بني هلال على مر العصور معتمدة على الشعراء والرواة ومضمونها القوي، وتؤرخ السيرة الهلالية للثقافة وللعادات العربية التي كادت أن تنقرض مثل الشهامة والفروسية والبطولة وقصص العشق العربية، وجاء الاهتمام بتوثيق السيرة الهلالية مع رحيل حفظتها ورواتها.