في الثاني والعشرين من أكتوبر 2007 انتقل الشاعر العراقي الكبير سركون بولص الى الضفة الاخرى تاركا وراءه عددا من الكتب الشعرية منها «الحياة قرب الاكروبول» و«إذا كنت نائما في مركب نوح» و«حامل الفوانيس في ليل الذئاب» و«الاول والثاني». هذا الشاعر لم يحظ، طوال حياته، باهتمام النقاد والدارسين ربما لغرابة نصوصه، أو ربما انتمائها الى سلالة شعرية لم يعرفها النقد العربي من قبل، سلالة امتزجت فيها دماء شعرية عديدة منحدرة من أزمنة شعرية عديدة مختلفة. الشعراء وحدهم احتفوا بهذا الشاعر وأشاروا الى «حدة» نصوصه، بل ربما عمدوا الى «توشيح» قصائدهم ببضعة من صوره، يشيرون الى مصدرها حينا، ويغضّون الطرف عنه في أكثر الاحيان. متواريا عن الانظار بقي هذا الشاعر، يحيا في أماكن قصيّة لا يدركها المثقفون العرب، يكتب، في عزلته، شعرا مختلفا عن الشعر الذي عهدنا، شعرا يبدو كما لو أنه بلا أسلاف، أو جذور أو آباء، ينتمي الى شعرية غامضة لا تعرف، على وجه الدقة، مصدرها. أنا في النهار رجل عاديّ يؤدي واجباته العادية دون أن يشتكي كأي خروف في القطيع، لكنني في الليل نسر يعتلي الهضبة وفريستي ترتاح تحت مخالبي لا شك أن هذا الشاعر الأشوري، ابن الحبّانية، المدينة المتكئة على الماء، قد ظل على صلة وشيجة بتاريخ أسلافه، يستعيد عراقهم الاول، عراق الاهوار، والالواح الطينية، والطوفان والثيران المجنّحة، وقلقامش، والحروف المسمارية. ولا شك أنه ظل يحمل هذا التاريخ على كتفيه الواهنيْن يطوف به من قصيدة الى أخرى، ومن بلد الى بلد ثان. يحتمل أن أكون أنا السائر وذكرياتي على ظهري مثل خرج أو بردعة ومن حولي تاريخ أهلي يلملم على عجل تحت جنح الظلام على عجل كراية مهزومة إننا لا نكتفي في حضرة هذه القصائد باستنزاف المعنى واستهلاك الصور وإنما ندعى الى الانفتاح على الشعر، على مطلق الشعر، والتأمل في وجوهه العديدة ومراياه المختلفة فنحن إزاء أخبلة ورموز عديدة نسعى الى تطويقها فيهرب منا الكثير ولا نظفر إلا بالقليل التقيت الشاعر سركون بولص ثلاث مرات كانت المرة الاولى سنة 1985 في مهرجان المربد ببغداد. وقد بدا لي بشعره المتهدّل، وقامته الفارعة، ولباسه الانيق، شبيها بنجوم السينما الامريكية. قليلين كنا في الصفوف الاولى نستمع الى نصوصه الخافتة تزاحم قصائد المهرجانات الصاخبة. كانت هذه النصوص تقف على حافة الشعر والنثر تسرد، بلغة حييّة، طفولة الشاعر في جبال العراق الشاهقة، وأوديته السحيقة. أما لقاؤنا الثاني فكان سنة 2005 في مدينة لوديف الفرنسية وقد أصبح شاب الثمانينات كهلا على أعتاب الشيخوخة لكنه ظل مع ذلك أنيقا بشعره الاشيب المتهدّل، وسحنته الجبلية اللافتة. هتف الشاعر خالد النجار وهو يستقبله: انظر إنه أشبه ما يكون بالأسد الأشوري! قرأ في هذا المهرجان قصائد طافحة بالحزن والتفجع والرعب دارت كلها حول العراق والحرب والخسارات تتوالى. أما المرة الثالثة فقد التقيته من جديد في لوديف سنة 2007. للوهلة الاولى لم أتعرّف على الرجل. فالمرض لم يترك من الشاعر الجميل غير جسم ناحل، وعينين غائرتين وخطو ثقيل لكن صوته الذي هتف باسمي سرعان ما أعادني الى الشاعر الذي عرفت! حين أبصرته يحتمي بالسكر تذكرت مثنوية جلال الدين الرومي التي استعار بعضها ليكون عنوانا لأجد كتبه الشعرية إذا كنت نائما في مركب نوح وأنت سكران