وقد كان الجد شخصا مؤثرا في هذا المجال إذ بث في نفسه الكثير من الأفكار الوطنية وكان جدي قد شاهد غزو الجنود الفرنسيين ودخولهم العاصمة من باب سعدون مزمرين مقرعين الطبول بعدما أجبر الجنرال بلريار الباي محمد الصادق على توقيع معاهدة باردو فكانت المعاهدة التي فرضت علينا نظام الحماية وكان جدي يهتز غضبا وغيظا كلما ذكر ذلك ساخطا على ما أبداه محمد الصادق من ضعف ووهن وكان دوما يندد بنظام الحماية ويعلن عن ثورته قائلا في غير ما مرة سوف ترى أنهم سيرحلون ويرجعون من حيث أتوا وكما أتوا قار عين طبولهم... «لا شك أن كلماته التي علقت بذهني كانت تؤثر في نفسي أيما تأثير فتنفذ إلى أعماق قلبي لكني لم أكن في ذلك الوقت لأفقه كنهها ولا لأدرك معنى أبعادها إذ كانت الأمور تبدو حولي عادية... «كما تجلى الإحساس في بعض ما كانت تثيره البرامج الدراسية من أسئلة وملاحظات في النفوس إذ كانت تضم الكثير من السموم والمغالطات ولعل المقارنة التي أوردها بين جون الفرنسي وإدريس التونسي في نصوص القراءة خير دليل على هذه البذرة الوطنية التي بدأت تنشأ في ذاته والتي نشعر بها أكثر في الحديث عن المؤتمر الافخارستي»... ومر سريعا المؤتمر الافخارستي الذي كنا نعتبره تحديا لديننا وروح تعاليمنا وإن ترك في نفسي أثرا فكان ذلك بصورة مبهمة فلم أشارك في أية مظاهرة من تلك التي علقت بالحدث ورغم ذلك فسيكون من الأحداث التي أثرت أكثر ما يكون التأثير على مجرى حياتي ومستقبل اهتماماتي ص139. لقد تشكلت في هذه الفترة ملامح شخصية تحس بالقضية الوطنية دون أن يكون لها اطلاع أو نشاط سياسي إنها مجرد أحاسيس ستبقى عالقة في الذاكرة وستساهم في نحت مسيرة رجل ساهم بعمق في مختلف صفحات البلاد... من الأحاسيس إلى المشاركة لقد تطوّر الوعي الوطني لدى إدريس أثناء فترة الصادقية فوجد نفسه في غمار معركة النضال من أجل استقلال البلاد وقد تجلّت مشاركته في محاور ثلاثة حضور الاجتماعات الحزبية التلمذية والتحلق حول الصحف الدستورية وتحديدا العمل التونسي وتونس الاشتراكية وممّا لا شك فيه أن الاطلاع على هذه الصحف ومواكبتها يزعج المستعمر وأذنابه وبعد مضي أسابيع عدت للمدرسة بعد الزوال فوجدت عددا من التلاميذ متجمهرين أمام سياج الحديقة حول الباهي الأدغم الذي كان أطولهم قامة فاقتربت منهم وارتفعت على أصابع رجلي حتى أرى ما كان يدور بينهم فشاهدت الباهي الأدغم وقد اتكأ على السياج يقرأ فصلا من جريدة لاكسيون تونيزيان وسوف تتكرر مثل هذه الاجتماعات مرات عديدة خلال الأشهر القادمة لأن قراءة الجرائد كانت محجرة داخل المدرسة... «ص199 ويضيف ونشأت حول تلك الحركة أمواج أخذت تنمو وتعظم حتى اجترتني في صخبها ومكثت زمنا أرسب حينا وأطفو أحيانا حتى عاد بي أقصى مد لمحيط أخذ يهدأ من بزوغ عهد الاستقلال...» ص200. المشاركة في الأنشطة النضالية حيث يتحدث في الفصل الثلاثين عن المشاركة في المظاهرات والمساهمة في تحرير جريدة العمل في أعدادها العربية الأولى المساهمة في العمل الجمعياتي وتأسيس جمعية شبابية داخل الحزب «أسست صحبة بعض الأصدقاء وبموافقة الأمين العام للحزب جمعية أطلقنا عليها اسم الشبان المسلمين لقد ولج الرشيد أبواب العمل الوطني وتعددت مساهماته النضالية وهو ما يعتبر مقدمة لمسيرة رجل ساهم بقسط وفير في بناء تونس وإرساء ملامحها ولكن فانوس الفجر ليس سيرة ذاتية فحسب بل هو سيرة وطن وشهادة على مرحلة هامة من تاريخه. من الذات إلى الوطن إذا كان الرشيد تحدث عن ذاته فقد تحدث عن سيرة وطن وعايش الكثير من الأحداث مثل المؤتمر الافخارستي وأحداث باب سويقة والحركية التي أفضت إلى ظهور الحزب الدستوري الجديد بما في ذلك ما تعلق ببعض شخوصه أو صحفه... كما نقل إلينا بعض الأحداث الاجتماعية وصورة عن العاصمة ومجتمعها ومناسباتها في تلك المرحلة كما لا ننسى التفاتته للحياة الأدبية وتذكره لوفاة الشابي «زارني يوما صديق غداة انعقاد مؤتمر الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا فقرع بابي بعد الزوال.. فأسفت للخبر عندما بلغني عن طريق صديقي. ان الموت شيء رهيب مؤسف مزعج خاصة عندما يحصد حياة شاب هو مع ذلك شاعر عبقري فذ..» ص253. والمتأمل في هذه المذكرات لا يفوته ذلك الرصيد من الاستطرادات والمعلومات التي أوردها الرشيد عن مسائل مختلفة وهو ما زاد ثراء هذه الوثيقة التي تحتاج إلى الدراسة والتحليل... من براءة الطفولة إلى الحماس الوطني: لقد مرّ بنا الرشيد عبر محطات عديدة من طفولته البريئة التي لا شغل فيها إلا المرح والحرص على النجاح الدراسي ومواكبة حياة الأسرة ومناسباتها والمحبة الطفولية لأفرادها ولكننا نلاحظ بداية تشكل نوع من الإحساس الوطني وهي أحاسيس على بساطتها ساهمت حتما في نحت كيانه وتكوين شخصيته الوطنية.