لغايات منهجية، براقماتية، سنستدعي مقاربات الالتفاف Approches de Cernement للتطرق لموضوع الصناعة الثقافية والتنمية الجهوية. حُجّتُنا في اختيار هذه المنهجية في المقاربة، ما يلي: ترك المجال «الملتفّ حولهُ»، لأهله، المكتوين بناره والذائقين من أطايبه، وعدم منازعتهم أهلية الانتماء واقتدار التشخيص من الداخل. تجنّب التيه في تفرعاته وفي رصد تنوع مصالح ومشارب متدخّليه، اعتماد مقولات ومؤشرات اقتصادية، كفعل الرافعة، وجدول التبادل الما بين قطاعي، مما يحتّم مقاربة القطاع الثقافي في وحدته، وفي علاقته بباقي القطاعات والمؤشرات، اتساع دائرة هذا الالتفاف لتشمل الصناعة والخدمات والإنتاج والأنشطة في الميدان الثقافي. لئن كان من حكم الثابت اليوم، تقدّم تونس إفريقيا، في مادة القدرة التنافسية، فلا يجب أن ننسى أن ذلك من باب معدل المؤشرات والقطاعات، حيث تتقدّم بعضها بصفة متميزة، لتُخفي في المعدل البعض الآخر، ممّن تخلّف عن الركب. تستدعي منّا الدقّة ولو محاسبيا أن نقيم تفرقة بين الصناعات الثقافية والخدمات الثقافية والإنتاج الثقافي والأنشطة الثقافية. دون الدخول في تعريفات، قد تبدو بديهية، يتبيّن لنا أن هذا الموضوع، يتجاوز الإنتاج الثقافي الذي نقصده ضمنيا وغالبا، ونماهيه مع ما يتّصل بالثقافة من صناعة وخدمات وأنشطة. هكذا تتبيّنُ لنا، من الوهلة الأولى، علّة / فخّ كل قراءة أحادية من الداخل، لهذا الموضوع بالذات. لنضرب على ذلك مثالا: بالإمكان نظم مرثيات في اندثار دور السينما، رثاء أبو البقاء للأندلس، ومع الإقرار بوجاهة الألم من هذا الاندثار، فإنّ الأهم من كل ذلك هو الإجابة عن بعض الأسئلة الحارقة: ما قابلية أهل القطاع وإقبالهم على التحول والتكيّف الذي لا بد منه درءا للاندثار؟ هل من سياسة وتمشّ لإدماج جيل جديد من الباعثين الشبان من ذوي الموهبة والاختصاص في القطاع؟ هل من صناعة سينمائية مرتقبة تكون من توابعها Effets d'entrainements إعادة إحياء هذه الدور وتطويرها كمّا ونوعا؟ I) في الصناعة الثقافية لئن كان هدف التجارة الأوّلي، هو إقامة السوق أي تنظيم لقاء العرض بالطلب، فإن غاية الصناعة إنتاج السلع، عبر صيرورة تستلزم في ما تستلزم : وجود طلب (داخلي أو خارجي أو كلاهما) لهذه السلع توافر أسبقيات تفاضلية لإنتاج مثل هكذا سلع توافر رأسمال مالي وتجهيزات توافر عنصر العمل والمهارات بهذا المعنى تنأى الصناعة الثقافية (والصناعة السينمائية مثلا) عن بعض أشرطة ترى النور بفعل الدعم متأثرة بمحدوديته، و«بضيق سوق» لم تستطع أن تلامس جزءا من حاجياته وبندرة دور عرض لم تمتلئ...! إنّ الصناعة الثقافية تشمل إنتاج مكونات «السلعة» الثقافية، كالآلات والبرمجيات والمكونات Composantsوالمستهلك Consommable والوسائط ومضامينها (كتبا أشرطة ...) والخدمات المتصلة بها، كما وفي طور مكتمل «السلعة النهائية». إنّ نسبة اندماج Taux d'intégration هذه المكونات عامل مهم للحديث عن صناعة ثقافية، تشمل صناعة السينما (وليس إنتاج بعض أشرطة بنسبة اندماج ضعيفة) صناعة الكتاب، الصناعات الموسيقية (آلات برمجيات وسائط..). 1) في مقولة ضيق السوق: لوأقررنا بهذه المقولة جدلا، والإقرار بها ليس بحكم المسلّم به، إذ أن الأسواق اتساع واكتناز (أي طلب ومقدرة شرائية) لو أقررنا بمثل هكذا مقولة، لكان التساول الآتي: هل وقعت تلبية حاجيات هذه السوق، ولو بنسبة من الإنتاج الداخلي؟ هل لدينا آليات الانضمام إلى صيرورة التنافس في السوق العالمية المتسعة؟ كما من خلال تساؤل محدّد، يتّضح خطأ التذرع بحجم السوق: كم نملك من شريط وثائقي مُحيّن، يستجيب للمواصفات العالمية الحديثة: Haute définition - Listes internationles عن: قرطاج العصر الجيولوجي القبصي Le Capcien الحضارة والحروب البونيقية مخزون الفسيفساء المواقع الأثرية المدن التونسية مشتقات الفسفاط ونحن الأول عالميا في تصنيعه.. لازلنا نذكر، أشرطة وثائقية، مرّرت في قنواتنا الوطنية، مقتناة بالعملة الصعبة، مُدبلجة بمشارق الأرض، تُنطَقُ فيها زامه زمّه وحنبعل بهاني البالْ! 2) في فعل الرافعة: ينبني هذا الفعل على مقولة الإسناد، وهذا الأخير جدلي، فمن يسندُ يُسندْ. سنتخذ كمثال في ما يلي: قطاع السياحة، ولنتثبت هل بإمكانه القيام بدور فعل الرافعة للقطاع الثقافي؟ لا يجادل اثنان اليوم، أن البلاد التونسية ذات تجربة معترف بها في الأنشطة السياحية، التي تحوز مراتب متميزة. بغضّ النظر عن المؤثرات العالمية الطارئة في عديد المؤشرات الاقتصادية، والتي تتيح جذبا وإنعاشا لعديد الأنشطة المجاورة (نقل صناعات تقليدية مواد استهلاكية...). لنلاحظ كذلك، وهذا الأمر جديد نسبيا، أن السياحة أثبتت قدرتها على لعب دور الرافعة لقطاعات أخرى ونسوق على سبيل المثال، الأنشطة الطبية. فعلاوة على منظومات التداوي بالمياه وأعشاب البحر، أضحت البلاد التونسية وجهة لطالبي خدمات طبّ الاختصاص والجراحة من الخارج. ويتبدّى جليا، من خلال هذا المثال أن دور الرافعة مشروط بعاملين، يتعلق الأول بقدرة الرافعة على الإسناد، ويتعلق الثاني بحاجة وقابلية وجهوزية المسنود. 3) في جهوزية المعطى الثقافي، صناعة وخدمات، إنتاجا وأنشطة: لا شك في أن المعطى الثقافي بحاجة إلى الإسناد، ولنفترض كذلك قابليته لهذا الأمر، وليكن واضحا من البدء أننا نقيم تفرقة عملية ونوعية ومحاسبية بين السياحة الثقافية والمنتوج أو «السلعة» الثقافية التي تستفيد من فعل الرافعة السياحي. لتلمس موضوع الجهوزية، سنقيم تدرجا، من الاَني الى المرتقب، ففي الجانب الاَني، لنتساءل : - كم من كتاب أو رواية تونسية انتاجا وطباعة، مترجمة الى عديد اللغات ويشهد المختصون بجودتها وجاذبيتها التسويقية، بالامكان توفيرها في سوق الطلب السياحي؟ - كم قطعة موسيقية من الفلكلور أو المستحدث، يشهد المختصون بجودتها وجاذبيتها التسويقية ...؟ - كم من عمل درامي مدبلج، متوافر على وسائط ذات مواصفات ...؟ - كم عملا تشكيليا ...؟ وتتوالى الاسئلة مطولا، لكل منتج ثقافي، تنافسي الكلفة والجودة، منتظر لاشباع السوق الداخلية وقد احتسب الطلب الاضافي لقطاع السياحة اليها. بامكاننا تكرار سالف الكلام، مع تعويض كلمة سياحة بكلمة تصدير، لتشكل هذه الأخيرة فعل الرافعة الثاني للقطاع الثقافي، الذي لا يستفيد من هذا الفعل لنقص Tare في الجهوزية. II - في الصناعة الثقافية والتنمية الجهوية : يرتبط هذان المجالان بوشائج كثيرة في التشخيص وفي الاَفاق، ومن بين هذه الوشائج حاجتهما الملحة لاستراتيجيات وخطط قصد انضاج جهوزيتهما، للاستفادة من فعل الرافعة التي ذكرنا مسندين من مناخ الاستثمار وتجربة التصدير ومعطى السياحة. ان دور الدولة واضح ومتأكد، في عملية هذا الانضاج، التي لم تكتمل وذلك بفعل عوامل داخلية Endogènes تتصل بهذين المجالين، وكذلك لضعف المبادرة الخاصة أولى خطوات هذا الدور، هو تقصي مسالك الاستثمار الخارجي في منظومتي الصناعة الثقافية والتنمية الجهوية ففي ما يتّصل بالصناعة الثقافية، بامكان هذا التقصي Prospection أن يشمل على سبيل الذكر : - صناعة الطباعة : كتاب يقرأ في ألمانيا أو فرنسا .. يطبع في تونس (ولا وجود لمعضلة التسويق بما أن هذه الطباعة تأتي تلبية لطلب خارجي مسبق) - صناعة المكوّنات Composants - أنشطة التركيب Montage - الفضاءات المهيئة للانتاج السينمائي ومدن الانتاج - وحدات الدبلجة - استديوهات التسجيل الصوتي - وحدات الاستنساخ Unités de duplications - مراكز التوثيق العلمية والثقافية المتخصصة (الصحراء- خبايا الأرض- الاَثار-الانتربولوجيا ...) إن تنافسية الكلفة وتوفر المهارات التعليمية والتقنية والتموقع الخصوصي للبلاد التونسية عوامل مهمة لجذب هذا الاستثمار، الذي ينتقل من منطقة الى أخرى من العالم متتبعا مسار التنافسية، مستندا الى عوامل جذب وإسناد كالتي أسلفنا (بنى تحتية- نقل- تشجيع واستثمار ...) بهذا المعنى تصبح هذه الاقطاب الصناعية الثقافية عامل تنمية جهوية وعامل احياء وقاطرة جذب للأنشطة الثقافية التي تعاني محليا صعوبات. ان هذا التقصي يستلزم - في ما يستلزم - جهدا تسويقيا للاقناع بأهلية وقابلية الفضاء التونسي، وخاصة مناطق التنمية الجهوية لاحتضان الاستثمار، انطلاقا من اثبات توافر : - خريجي المعاهد العليا للتقنيات السمعية البصرية والملتيميديا والاعلامية المطبقة على الصوت والصورة والموسيقى والديزاين Design والفنون الجميلة والمسرح وفنون الطباعة ... - تنوع المواقع (اَثار - غابات - سدود - سهول - واحات - صحاري - بحيرات ...) - بنى تحتية (مطارات - طرقات - وحدات فندقية ...) - ثراء ثقافي محلي (مركز فنون درامية - فرق مسرحية جهوية - فلكلور - وجوه متنوعة - للكومبارس ...) - توافر حرفيي الديكور لنا في تجربة المعطى السياحي خير دليل، فمن الوحدات القليلة الخفيفة الى المجمعات «الثقيلة»، ولا ننسى أن نجاحا يستجلب اَخر Effet démonstratif وبقطع النظر عن أهمية المعطى الجيو-سياسي في ضرورة انضاج جهوزية عوامل التنمية الجهوية، فان هذه الأخيرة (أي التنمية الجهوية) عامل ضروري لحفاظ المناطق التي استفادت من التطور والنمو على مواقعها. بين أعيننا اليوم التجربة الصينية في النمو الاقتصادي والتي تقوم - في ما تقوم - على «زرع» الاستثمار في المناطق والأقطاب الجديدة، التي تشكّل بدورها أسواقا جديدة للجهات والقطاعات ذات الأسبقية في النمو. بهذا الفهم، تصبح التنمية الجهوية، عاملا حاسما للمحافظة وتطوير نسق النمو، من خلال تنمية الطلب الداخلي من جهة وتنويع مسارات الاستثمار والتجارة الخارجية من جهة أخرى، لاعبءا على التنمية كما قد يتصور البعض. ستكون بلادنا قد أنجزت المهم اذا تفطن المختصون ان الصناعة الثقافية أصبحت تحوز موقعا في جدول التبادل الما بين قطاعي وأن مؤشرات التنمية متقاربة بين الجهات تصاعدية فيها جميعا. أخصائي في تمويل التنمية