كان ولدا فقيرا يطارد مع أترابه في البطحاء جوربا محشوا بأسمال من قماش ليسجل هدفا بين حجرين في كثير من الأحيان يتعثر فيهما أحد الصغار فتدمى أصابع قدميه الحافيتين.. كانت لعبة من الألعاب البسيطة التي لا تتجاوز حدود الوضع الاجتماعي لأهالي منطقة العلم من معتمدية السبيخة. محمد غنّام.. عانق قمّة من قمم النجاح بعد محطات تجاوزها بالصبر والتضحية والكفاح.. التقيناه بمناسبة مؤتمر الأيام الطبية الأولى «بيت الحكمة» بالقيروان وتناول معنا فصولا من سفرة نجاحاته الباهرة والمثيرة بأسلوب مبسط تفوح منه رائحة التواضع.. وبلهجة ريفية تعبّر عن شخصية قوية لم تؤثر فيها الشهائد العلمية.. بل بقي متجذرا في هويته وأصالته وحبّه لوطنه. نبدأ بصفحة من طفولتك التي تحنّ إليها دائما فهل تستحضر المزيد من أوراقها في ذاكرتك؟ ولدت في منطقة العلم بمعتمدية السبيخة من ولاية القيروان سنة 1955 في زمن كانت فيه البساطة والخصاصة يكتسحان ملامح أغلبية شرائح المجتمع،، فتحت عينيّ في مكان هادئ يغلب عليه السكون والفتور بعيدا عن الأضواء والضوضاء وأصوات المحركات لا تسمع فيه إلا صياح الديكة وثغاء الأغنام وأهازيج الرّعاة تردّدها السهول وأحجار سرديانا.. كنت ألعب قليلا ثم انجذبت إلى كتبي وأوراقي وأقلامي وأميل إلى الأرقام أكثر من الحروف.. بدأت بعد الأصابع.. ثم أعواد الكبريت.. ثم أخرج في الليل لأحصي عددا أكبر من النجوم. توسعت ملكة الادراك فقلّت لديّ حركة اللهو واللعب وارتبطت بعشق القراءة والحفظ والكتابة.. ولا أنام إلا وأحبابي بين أحضاني وكانت النتيجة إيجابية انطلاقا من المرحلة الابتدائية وتعودت بأن أعود بعد نهاية كل ثلاثية مهرولا إلى البيت أخفّق بساعدي فرحا مثل العصفور حاملا بيميني سلّتي وباليد اليسرى دفتري الذي يتضمّن الرتبة الأولى بأحسن معدّل. يبدو أن فترة شبابك كانت متشابهة من حيث تحفزّك للنجاح ورغبتك في الصعود؟ بما أن فرحتي تتضاعف مع فرحة الوالدين حين أدخل البهجة إلى قلوبهم عزمت بأن أواصل في نفس المسار.. تحولت إلى عاصمة الأغالبة لأواصل تعليمي بالمرحلة الثانوية في المنصورة.. كنت أحوم حول الأسوار مشيا على الأقدام وأتمتم بما كان يحويه الكتاب الذي بين يديّ.. ومن حين لآخر أستردّ أنفاسي وأقف في مكاني المعتاد لأرفع بصري إلى صومعة جامع عقبة ابن نافع.. وبدأت أرسم في خيالي صورا وملامح للآفاق.. كنت أريد أن أتحرّر من أسوار القيروان ومن طوق الأحجار.. أريد أن أرى ارتفاعا أعلى من الصومعة.. فنلت شهادة الباكالوريا عام 1975 بملاحظة حسن جدّا في شعبة الرياضيات. ما أقصى طموحك في بداية الطريق؟ كان أقصى طموحي في طفولتي هو ان أصبح معلّما أو أستاذا بحكم محدودية التفكير وضبابية ملامح الآفاق.. كنت قنوعا بهذا الطموح الذي يتناغم مع رغبة والديّ.. مع إدراكي أنهم لا يعرفون مفهوم الرياضيات ولا يفقهون درجة أعلى من المعلم أو الأستاذ.. ومع هذا فإنهم استمتعوا بطريقتهم الخاصة برتب ومعدلات نجاحي وعاشوا فرحة جعلتهم يسبحون فوق عرش أعلى وأرقى من بساطة ونمط الحياة التي يعيشونها. كيف كانت محطتك الثالثة في فرنسا؟ هل انتابتك رهبة من الفشل بحكم اختلاف المحيط والمناخ ومن نظرة الآخرين للعرب؟ حين ودّعت الأهل والأقارب وتركت أسوار القيروان ومآذنها.. توكلت على اللّه وتحوّلت إلى باريس وجدت حصنا آخر واحتشد أمام بوابته عدد كبير من الطلبة من مختلف الأديان والأجناس يستعدون للمناظرة.. فاخترقتها متحصلا بذلك على الرتبة الثالثة من بين 1800 مترشح وتمّ قبولي مع عشرة في المائة من العدد الجملي.. لم تغرني مباهج فرنسا وحرّياتها المتعددة والمتناقضة وعكفت في الجامعة لأكمل الرسالة التي قدمت من أجلها.. لأن فرحة نجاحي وأنا صغير كانت لا تتجاوز جدران بيتنا المتآكل أما الآن فإنه أصبح مقترنا براية ووطن.. درست سبعة سنوات في كلية الطب كللت بالنجاح ثم تفوقت في مناظرة التخصّص «الأمراض القلبية» و«علم القسطرة» لمدة أربعة سنوات. ولم تنته المنافسة عند هذا الحدّ مع الكبار بل جدّدت العهد مع النجاحات لأواصل أربعة سنوات أخرى أهّلتني لأن أكون رئيس مصلحة بالمستشفى الجهوي «بقوناز» ورئيس قسم أمراض القلب بباريس ورئيسا لجمعية الأطباء المغاربة ورئيسا للجمعية الفرنكفونية لأمراض القلب وعضوا بالمجلس البلدي بباريس ورئيسا للبعثات الطبية التي توجهت إلى العراق لبنان غزةالجزائر.. الخ. وهذا ما خوّل لي الحصول على وسام الاستحقاق الأعلى الفرنسي من الرئيس جاك شيراك. من الذي ساعدك على النجاح؟ بالدرجة الأولى اللّه ثم الوالدان.. فالمحيط العائلي بما فيه من خصاصة إلا أنه كان غنيا بالتحابب والتآلف بين أفراد العشيرة.. وحين تحولت إلى فرنسا وجدت الدعم المادي والمعنوي من ابن خالي «الهادي غنام» الذي وفّر لي كل عوامل النجاح ثم زوجتي الفرنسية التي اعتنقت الاسلام وتخلت عن عملها حتى تتفرّغ لي ولأبنائي.. ودون أن أنسى شخصية عزيزة إلى قلبي وهو معلمي ومدير مدرسة العلم السيد الصادق نقرة الذي ساهم إلى حدّ كبير في نحت شخصيتي وحفّزني على النجاح. كلمة الختام؟ الحمد للّه أن سمعة التونسيين في فرنسا وأوروبا بل في كل بلدان العالم طيبة وجيدة بما تتميز به الطلبة والكفاءات الطبية من ذكاء حاد وأخلاق رفيعة وسرعة الفهم والاستيعاب وسهولة التأقلم مع مختلف الجنسيات وتقديم الاضافة بالنجاعة والابتكار والابداع وبعد نجاحي توجهت بوصلة منظاري إلى وطني من خلال مشاركاتي في لقاءات ومؤتمرات بالتنسيق مع أستاذنا العزيز الدكتور محمد قديش رئيس جمعية أمراض القلب بتونس لارساء أهداف في تبادل المعلومات والتجارب والخبرات وبعث خلايا طبية للتكوين والتربصات وإني أحسّ بفخر انتمائي لتونس مع كل نجاح عملية لشخصيات مشهورة في ميادين السياسة والفن والرياضة طبعا دون أن أذكر أسماءهم وهذا يدخل في أخلاقيات المهنة. وشكرا لكم.