تعثر في مشيته حاملا حقيبته المدرسية على كتفه.. أدخل يده في جيبه باحثا عن قطعة نقدية من فئة 5 دنانير أخرجها وتفحصها مليا بأصابعه التي كانت لتوها منغمسة في أحد جيوب أنفه المصاب بالزكام.. في غفلة منه سقطت القطعة النقدية إلى الأرض فانحنى لالتقاطها من بركة المياه الراكدة.. مسحها في منديله المدرسي وولج إلى داخل محل اللمجة الخفيفة.. سلمها على عجل إلى البائع طالبا «كسكروت تن».. تسلمها البائع وألقى بها إلى درج الأموال ثم سحب قطعا أخرى أعادها إليه وبالسرعة نفسها توجهت نفس تلك الأصابع التي كانت لتوها تلمس القطع النقدية إلى الخبز والسلطة وإلى التن الذي رفعه بين أصابعه وشرع في تحويله إلى فتات.. ثم سلم «الكسكروت الجاهز» إلى الطفل نصف ملفوف ليأكله المسكين على عجل.. صورة حية رصدتها عدسة «الشروق» أمس في شارع مرسيليا بالعاصمة.. في الوقت الذي ترتفع فيه الأصوات والومضات الاشهارية والمعلقات لتنذرنا بخطر الجراثيم وضرورة غسل أيدينا بعد كل نشاط وقبل الأكل وبعده صورة تتكرر في كل مكان.. تقريبا وداخل عدد هام من المحلات المخصصة للمجة الخفيفة.. من يتعهد بقبض الأموال.. هو نفسه من يعدّ اللمجات.. في تجاوز خارق للقانون ولشروط الصحة الأساسية. ما حدث داخل هذا المحل يحدث أيضا داخل محلات أخرى تكون فيها الأيادي هي الوسيلة الرئيسية لصنع اللمجات سواء كانت كسكروت تن أو كفتاجي أو غيرها .. محلات تخترق أبسط قواعد الصحة الأساسية رغم كل الحملات المستمرة والدورية التي تقوم بها مصالح المراقبة.. لكن!! أحد هؤلاء الباعة تظاهرنا باقتناء لمجة ثم تراجعنا في محاولة لاعلامه بتلك المخالفة الصحية التي هو بصدد ارتكابها في حق المواطنين المضطرين لاقتناء لمجات على عجل.. وأصابعه منغمسة في وعاء التن طورا وفي درج الأموال طورا آخر.. فردّ على احتجاجنا بطريقته.. إن لم يعجبك الأمر فاذهب إلى محلّ غيري.. فالمحلات كثيرة.. هكذا كان ردّ صاحب المحل الذي برّر فعلته بكونه يعمل بمفرده في غياب مساعده المريض. وعاد إلى القطع النقدية يلقي بها إلى الدرج وماح بوجهه عنّا إلى حريف جديد يرغب في صحن «تونسي»!! ما خفي..!! رغم أن واجهته البلورية كانت مميزة نسبيا إلا أن استعمال الأيدي مباشرة في السلطات كان النقطة التي جعلت من هذا المحلّ الذي يقع وسط العاصمة مخالفا مثل غيره من المحلات التي تجاوره لشروط الصحة الأساسية.. العاملة المتخصصة في صنع أو إعداد «السندويتش» لا تعير اهتماما للتفاصيل.. ومباح في قاموسها هي الأخرى أن تتسلم منك الأموال وتتحسسها للحظات قبل أن تعود إلى أوعية السلطات والتن ملك اللمجات لتحول مكعباته إلى فتات بين أصابعها.. وأحيانا تجد تلك الأصابع طريقها إلى خرقة بالية تمسح بها جوانب الأوعية ولمَ لا تلتقط ملعقة السلطة المشوية والهريسة فتتذوق بها نوعا من المعروضات وتلحسها كقطة بلسانها قبل أن تعيدها من جديد إلى الوعاء.. مشاهد أقل ما يقال عنها إنها مزرية ومثيرة للاشمئزاز.. لكن رغم ذلك وتحت أعين الحريف نفسه يسلّم المال ويستلم اللمجة دون أي حركة احتجاجية أو تحذير أو حتى تلميح عابر لصاحب المحل.. حرفاء مستسلمون للقدر.. وللكسكروت الذي يقتنونه على عجل يتقاذفون المسؤولية لإلقائها على الطرف الآخر.. فالمواطن يحمّلها لأعوان الرقابة الصحية.. وصاحب المحل يؤكد أن حريفه المعني المباشر بصحته قابل بالوضعية وإذا ما تجولت لساعات مع فريق الصحة فإنك تمنحهم الحق في تحميلهم المسؤولية الحقيقية للحريف ليقاطع هذه المحلات.. فيصبح الاعلام هنا وكأنه الدخيل على محور علاقته مباشرة بين طرفين لا ثالث لهما.. المحل والحريف لا غير. السيد محمد اسم مستعار (حسب ذكره) لصاحب مخلّ بكل القواعد والشروط الصحية.. لم يبد احراجا من الكلام بل والاحتجاج أيضا: «لا مشكل نعم أي إشكال قد يحدث لو أني لمست الأموال وأنا أعدّ الكسكروت فأنا أتناول غذائي بنفس الطريقة وصحتي والحمد للّه سليمة..؟». ردّ السيد محمد يغني عن كل تعليق.. حاله كحال غيره من المحلات التي زرناها وعاينا فيها الامتزاج بين القطع النقدية والسلطة والتن رغم مخاطرها والأضرار التي يمكن أن تنجرّ عنها حين تنقل تلك القطع النقدية التي لامست عشرات الأصابع ما حملته من ميكروبات وفايروسات إلى أيدي العامل ومنها إلى الأكلات التي تُلمس مباشرة باليد رغم كون الشروط الأساسية للصحة تؤكد على ضرورة أن يكون قابض الأموال بعيدا كل البعد عن الأكلات وأن لا تلامس أصابعه حتى الخبز المعروض.. هذا الاشكال أضحى منتشرا في أغلب محلاتنا من جهة؟ ويتقبله المواطن عن طيب خاطر وكأنه أضحى أمرا طبيعيا.. حتى أن أغلب من حاولنا التحدث إليهم لم يستغربوا ذاك المشهد رغم اقتناعهم الكلي بكونه قد يتسبب لهم في مشاكل صحية على غرار السيدة سنية التي اقتنت لتوها «سندويتشا» لها وآخر لطفلتها: «للضرورة أحكام.. أعمل طيلة اليوم واليوم بالذات لم أجد الوقت الكافي لاعداد اللمجة بالبيت فاضطررت مكرهة لاقتناء أكل من الشارع.. ثم إن كل المحلات متشابهة خلل في الأيدي أو البضاعة أصبح أمرا متساويا المسؤولية تعود على صاحب المحل ليحترم شروط الصحة ولأعوان الصحة حتى يمارسوا عملهم بصفة دورية في الرقابة أما المواطن وهو الحريف بالأساس أصبح لا حول له ولا قوّة وأذكر أنه ذات مرة حاولت أن أحتج على بائع منحني «بيتزا» كانت الطماطم التي بها تفوح منها رائحة كريهة.. هذا الأخير رفض إعادة ثمن البيتزا ونهرني أمام الجميع ولا أحد من الحرفاء الذين كانوا موجودين نصرني فوجدت نفسي أترك له البيتزا وثمنها. اسهال وتسمّم حول النتائج السلبية التي يمكن أن تتسبب فيها عملية مسك القطع النقدية بالأيدي التي تعدّ في الآن ذاته المواد الغذائية أفادنا الدكتور أحمد الزريبي المختص في الأمراض الجرثومية أن المشكل الحقيقي يكمن في الأيدي وفي نظافتها لأنها الوسيلة الوحيدة لنقل البكتيريا مضيفا: «مسك القطع النقدية التي تكون عادة قد انتقلت بين عشرات الأيادي ومنها التعامل مباشرة مع المواد الغذائية كالتن والسلطة تؤثر حتما بطريقة مباشرة على صحة الانسان فنظافة اليدين هي الطريقة الوحيدة للحماية وإذا ما أغفلنا هذه الناحية يمكن للأمر أن يؤدي إلى التسمم الغذائي وإلى التقيؤ والاسهال إذ تصيب هذه الميكروبات مباشرة المعدة. وأوضح الدكتور الزريبي مؤكدا على ضرورة اعتماد غسل اليدين بطريقة منتظمة بالماء والصابون للوقاية من كل أنواع الأمراض الجرثومية التي قد تكون منقولة باللّمس وأن استعمال القفازات في محلات الأكلات يعني غسلها بدورها بالماء والصابون للمحافظة على نظافتها شأنها شأن الأيدي. .. المتجوّل اليوم داخل محلات الأكلة الخفيفة سيخرج بنتيجة واحدة أن ما هو مدرج ضمن الممنوعات والتجاوزات الصحية أضحى مباحا وعاديا ونقطة مشتركة بين جلّ المحلات التي لا يهتم أصحابها إلا بالمال دون احساس بالمسؤولية تجاه ما يترتب عن سلوكهم من أمراض وتسممات تتطلب علاجا ومضادات حيوية وميزانية لا بأس بها للشفاء هذا إن لم تترتب عنها مصائب أخرى جلدية كالحكاك والبثور ويبقى وعي المواطن والحريف هو الرقيب الحقيقي.