ملف التسفير إلى بؤر التوتر: حجز القضية للمفاوضة والتصريح بالحكم    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    الرابطة الأولى (الجولة 28): صراع مشتعل على اللقب ومعركة البقاء تشتد    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    عاجل/ هلاك ستيني في حريق بمنزل..    القضية الفلسطينية تتصدر مظاهرات عيد الشغل في باريس    نسق إحداث الشركات الأهلية في تونس يرتفع ب140% مقارنة بسنة 2024    أعوان وإطارات المركز الدولي للنهوض بالاشخاص ذوي الاعاقة في اعتصام مفتوح    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    نهائيات ماي: مواجهات نارية وأول نهائي لمرموش في مانشستر سيتى    لأول مرة في التاريخ: شاب عربي لرئاسة ريال مدريد الإسباني    تشيلسي يهزم ديورغاردن 4-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    عيد الاضحى 2025: الأضاحي متوفرة للتونسيين والأسعار تُحدد قريبًا    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    زاراها قيس سعيد...كل ما تريد معرفته عن مطحنة أبة قصور في الكاف    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عاجل/ أمطار أعلى من المعدلات العادية متوقعة في شهر ماي..وهذا موعد عودة التقلبات الجوية..    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    رئيس الجمهورية في عيد العمّال: الشغل بمقابل مع العدل والإنصاف    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الليلة: سحب عابرة والحرارة تتراوح بين 15 و26 درجة    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة مفتوحة إلى السيّد وزير الثقافة الفرنسي فريديريك ميتران: كيف نساوي بين الإرهابي «الأحمر» والمقاوم «الأسود»؟!
نشر في الشروق يوم 07 - 01 - 2010

اسمحوا لي أن أعبّر لكم عن مدى الاحترام الكبير الذي نكنّه لكم، كما اعتزازنا بحبّكم لبلادنا تونس والذي لا نشكّ ولو للحظة فيه، حبّ تولّد مع السنوات وكبُر حتّى بتّمْ تونسيا في الهوى والروح والشعور وإن كنتم فرنسيا.
لكن، وفي ذات الوقت، استفزّني كثيرا ما نسب إليكم من تصريح في جريدة «الشروق» التونسية بتاريخ 30 ديسمبر 2009، وكم وددت صادقا لو أصدرتم بيانا «تتراجعون» فيه عن بعض ما تضمّنه، وبقيت أنتظر مخلصا إلى حدّ كتابة هذه الرسالة، مثل هذا التصويب أو التصحيح في بعض مقاطعه، وكم رجوتُ حالما لو حدث خطأ ما ولو مطبعي أثناء نقل ما صرّحتم به إلى هذه الجريدة، متسائلا في ذات الوقت، إن كان ما نُشر هو تعبير عن وجهة نظركم الشخصية أو وجهة نظر الحكومة الفرنسية باعتباركم وزيرا للثقافة؟ أترك الإجابة إليكم !
سيّدي الوزير،
كم كانت رغبتي فيّاضة لو أنّكم اقتصرتم في تصريحكم على مسألة تظاهرة الموسم الثقافي التونسي في باريس، وتجنّبتم الخوض في مسائل «حسّاسة» كتلك التي تطرّقتم إليها بخصوص التركة الاستعمارية..خاصّة وأنتم تدركون أكثر من غيركم أنّ التونسيين يكنّون محبّة وعطفا كبيريْن لكلّ من يتعلّق بهم وببلادهم، وأنتم تدركون مدى تلقائية هذا الشعور التونسي تجاهكم، وأنتم تعايشون مدى الودّ التونسي الكبير إزاءكم، ألم يكن من المستحسن سيّدي الوزير لو نأيتم بأنفسكم عن هذا الموضوع؟ ما دام لديكم رأي بخصوصه، تدركون أكثر من غيركم أنّه قد «يصدم» جانبا كبيرا من التونسيين، خاصّة وأنّه سيُحسب عليكم!
سيّدي الوزير،
تعلّمنا في مقاعد الدراسة أنّ فرنسا هي رمز الحرّية ومنها نبعت مبادئ حقوق الإنسان، وتشبّعنا بحبّ هذه البلاد التي قدّمت الكثير للتراث الإنساني العالمي، وأقبلنا على تعلّم لغتها واستوعبنا جيّدا أنّ فرنسا الرمز ليست هي فرنسا التي استعمرت بلدانا ونهبتها وارتكبت جرائم استعمارية فيها، واعتبرنا صادقين أنّ الاستعمار الفرنسي هو حادث تاريخي طارئ في سيرورة «فرنسا الخالدة» على حدّ تعبير الرئيس الفرنسي الحالي، ولم نشذّ نحن هنا عن زعاماتنا الوطنية ورموزنا خلال فترة النضال ضدّ الاستعمار، إذ كان الوطنيون التونسيون يميّزون جيّدا بين فرنسا الحرّية ومصدر حقوق الإنسان التي هي الأصل، ومصدر شرعية الكيان الفرنسي المعاصر، وبين فرنسا الاستعمارية بكلّ ما تعني هذه الكلمة من معنى والتي نعتبرها هي الشاذّ الذي لن يدوم.
سيّدي الوزير،
لقد اعتقدنا أنّ الخطوات المحتشمة التي تمّت في عهد الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في اتّجاه المصالحة التاريخية مع شعوب المغرب العربي، هي بداية الطريق، طريق استرجاع فرنسا لفرنسا، طريق استبعاد فرنسا الرمز كلّ ما يحيد بها عن مبادئها الإنسانية، وخِلنا أنّها ستتدعّم أكثر مع تصريحات الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي، وقلنا ما انعدم أبدا الأحرار في ضمير فرنسا! وها هم يعودون ثانية! كما عهدناهم في فترة الاستعمار، عندما عثر وطنيو منطقة شمال افريقيا في مسيرتهم الشاقّة، وطوال هذه الحقبة «البغيضة» على ضمائر فرنسية حرّة دافعت عنهم وساندتهم، ولو كلّفها ذلك حياتها على يد فرنسا الاستثناء.
سيّدي الوزير،
لقد اغتبطنا لمّا سمعنا الرئيس الفرنسي ساركوزي يصرّح للفرنسيين في 8 ماي 2008 بأنّهم يجب عليهم أن «لا ينسوا أنّه إلى جانب الجلاّدين والقتلة، ثمّة العديد من الفرنسيين الذين يجسّدون أكثر قيم فرنسا جمالا والفكرة الأعلى للإنسان، وإذا كانت للأمم روح، فإنّهم أنقذوا روح فرنسا..فرنسا التي حاربت من أجل الحرّية وكرامة البشر..»، وبالتالي، «يجب أن لا تُنسى أيّة غلطة وأيّة جريمة»، وقلنا ها قد استفاق الضمير الفرنسي الحرّ بالرغم من أنّ هذا الخطاب موجّه إلى الداخل، إلى الفرنسيين أنفسهم، ورجونا لو أنّه يحمل بدايات التوجّه نحو الاعتراف ب«تجاوزات» الحقبة الاستعمارية، ولكن خيّب الجدل الدائر حاليا في فرنسا بخصوص الاستشارات حول مسألة «الهويّة الوطنية» في فرنسا أملنا، بالرغم من أنّ هذه المسألة هي شأن داخلي فرنسي صرف، لا حقّ لنا بالتدخّل فيه ولو ثمّة جالياتنا هناك!، ولو ثمّة شعور بأنّهم هم المقصودون هنا من هذه الاستشارة!
وقلنا سيّدي الوزير، هذا نقاش فرنسي – فرنسي تماما مثلما قلتم أنتم في تصريحكم لصحيفة «الشروق» هذا نقاش تونسيتونسي، وتقصدون بذلك «ملفّ مطالبة فرنسا بالاعتذار والتعويضات للتونسيين عن الحقبة الاستعمارية»، لكن، يكمن الفرق بين قولي وقولكم سيّدي الوزير في هذا التساؤل وهو: كيف يمكن أن يكون هذا الملفّ نقاشا تونسيا- تونسيا، والحال أنّ فرنسا هي التي احتلّت تونس لمدّة 75 سنة؟ وليس التونسيون هم الذين استعمروا التونسيين! !، اسمحوا سيّدي الوزير أن أقول لكم بأنّني لم أفهم حقيقةً ما تقصدون، فإن كنتم تعنون أنّ هذه المسألة لا يوجد حولها إجماع في تونس وأنّها محلّ أخذ وردّ بين التونسيين؟ فإنّني لا أعتقد بأنّ غالبية التونسيين لا يحبّذون اعتذارا فرنسيا على حقبة كاملة ارتكبت فيها جرائم بحقّهم، واستشهد العديد منهم وانتهكت أراضي أكثريتهم ونهبت وأطردوا منها كما نهبت خيرات بلادهم واستنزفت لفائدة المحتلّ الذي هو فرنسا، وحتّى بعض أنماط الحداثة التي أدخلتها فرنسا في تونس إن في التعليم أو في الصحّة أو في الطرقات فغايتها مندرجة في نطاق منطق الاستغلال الاستعماري.
سيّدي الوزير،
لم أفهم لماذا عندما تعلّق الأمر بهذه المسألة، باتت تونس «بلدا قويّا وناضجا وأكبر من هذه الأفكار والنقاشات»؟ هل أنّ من واجب التونسيين أن «يترفّعوا» عن التطرّق إلى ماضيهم الأليم؟ وأن ينسوا مواكب شهدائهم وأن يتناسوا ما حيق بآبائهم من ظلم وحيف، وما عانوه من استنزاف لخيرات بلادهم وأن يمسحوا بجرّة لسان هذه المرّة تضحيات آبائهم وأجدادهم من أجل الانعتاق؟ هل أنّ رجوع التونسيين القويّ إلى ذاكرتهم واستفاقتهم على وقع ما استبطنوه من ذكريات بمُرّها وأحيانا بحِلوها مرّرها إليهم آباؤهم وأجدادهم، يُعدّ وكأنّه أمر ثانوي حتى لا نقول شيئا آخر؟!
سيّدي الوزير،
أنتم تدركون أكثر من غيركم، بأنّ ماضي شعب ما وذاكرة شعب ما لا يمكن لهما أن ينطفئا حتّى وإن خَفَت وهجهما فلفترة، فهل نسيت فرنسا ماضيها وخاصّة «سنوات فيشي السوداء»، التي لطّفها الآن بعض المؤرّخين الفرنسيين فأطلق عليها تسمية «السنوات المظلمة»؟ أنتم أدرى منّا بهذه السنوات التي ما زالت تشكّل جُرْحا ذاكريا جماعيا فرنسيا غائرا في وعي الفرنسيين ولا وعيهم لم يمح إلى حدّ الآن! أليس كذلك سيّدي الوزير؟! ألم تذكروا أنتم هذه السنوات في تصريحكم لصحيفة «الشروق»؟ ألا يعني ذلك الاستذكار أنّها مستبطنة في وعيكم؟ ألا يخجل الفرنسيون من هذه السنوات، سنوات ودّوا لو لم تكن موجودة أصلا؟ ألا يعتبر الفرنسيون هذه السنوات وكأنّها كابوس مزعج ومُخزي ودّوا لو استفاقوا يوما فلم يعثروا له على أصل ولا وجود؟!
أليس الشعب الفرنسي هنا أكبر من التطرّق إلى هذا الموضوع بالذات؟ وبالتالي، فلماذا بقي هذا الجرح الفيشي نازفا إلى الآن؟ ألا يعمل الخطاب الرسمي الفرنسي الآن وحتّى من قبل كلّ جهده من أجل محو «سنوات العار» الفيشي؟ لكن الذاكرة الجماعية والماضي المشترك للفرنسيين أقوى من أن يُنسّوا فيهما، سنوات احتلّت فيها فرنسا بسهولة مفرطة وعانت من الاحتلال الألماني لها ومن حكومة الماريشال بيتان الموالية له في فيشي الفرنسية ومن لافال..
سنوات تعاون فيها الفرنسيون مع الألمان وتواطأ بعضهم - حتّى لا نقول شيئا آخر- مع العدوّ الألماني اللدود ضدّ أبناء وطنهم الأحرار، الذين لم يرضوا بالضيْم والاستعباد والمهانة والذلّ، فهبّوا لتحرير وطنهم فرنسا، في شكل حركات مقاومة سرّية اتخذت لها أسماء عديدة أمثال: «الجيش السرّي»، «الانتقام»، «القنّاصة»..فكانوا ضمير فرنسا الحيّ وأنقذوا الشرف الفرنسي من إلصاق تهمة تعاون كلّ الفرنسيين مع المحتلّ الألماني، ألم يعنيهم الرئيس الفرنسي ساركوزي بقوله في ذات خطابه بتاريخ 8 ماي 2008؟: «فرنسا التي يمكننا أن نعلّم أطفالنا كي يكونوا فخورين بها، فرنسا الحقيقية، لم تكن في فيشي، لم تكن في التعاون(أي مع المحتلّ)، لم تكن فرنسا الحقيقية في الميليشيا، كانت فرنسا الحقيقية، فرنسا الخالدة في صوت الجنرال ديغول»، في شجاعة ابنة الأربعة عشر عاما كلود ماندال لمّا صفّى الفرنسيون المتعاملون مع الاحتلال الألماني والدها الوطني، في تضحية شابّ بنفسه، وهو في مقتبل حياته، من أجل تحرير فرنسا من الألمان، شابّ لم يتجاوز عمره 17 عاما ويدعى قي موكي ، فكان أن وهب حياته القصيرة للغاية من أجل فرنسا فخلّدته فرنسا!
سيّدي الوزير،
كيف لا تريدنا نحن هنا في تونس أن لا نفتخر بآبائنا وأجدادنا الذين ضحّوا من أجلنا، وأن لا نطالب بإعادة الاعتبار إليهم، وأن لا نخلّد ذكرى شهدائنا، كلّ شهدائنا، وأن لا نطالب من استعمرنا بأن يعتذر إلينا وأن يعتذر إلى أرواح شهدائنا؟ وذلك حتّى نشعر أنّنا بقينا أوفياء لذكراهم من خلال المطالبة بردّ الاعتبار الاعتذاري إليهم، هل تستنكفون عنّا هذا الواجب الذاكري إزاءهم؟
سيّدي الوزير،
أعذرني إن تحدّثت عن شأن داخلي فرنسي، وإن كان مرتبطا باحتلال ألمانيا لفرنسا سنوات 1940 – 1944، لكنّ الذي جرّني للحديث عنه هو إشارتكم إليه كي تعلّلوا للتونسيين مدى ثانوية ما يطرحونه بخصوص الاعتذار، وبالتالي، علينا أن نهتمّ نحن التونسيين بما ينفعنا أكثر! لكن، ألستم معي، سيّدي الوزير في أنّ سنوات فيشي المظلمة هي قبل كلّ شيء، وقبل أن تطالب فرنسا ألمانيا بالتعويض، هي شأن داخلي فرنسي حقيقي، شأن داخلي فرنسي بين فرنسيين وهم الأغلبية قبلوا التعامل مع المحتلّ الألماني تحت راية «الثورة الوطنية» التي نادى بها الماريشال بيتان بطل الحرب العالمية الأولى، وبين فرنسيين وهم قلّة قليلة للأسف خاصّة في البدايات، لم يقبلوا بالاحتلال فانتفضوا في شكل حركات مقاومة سرّية فكان أن طاردهم ابن وطنهم الفرنسي وسجنهم وعذّبهم وصفّاهم..أكثر ممّا فعله المحتلّ معهم!
وبالتالي، سيّدي الوزير، هل ستطالب فرنسا اعتذارا وتعويضا من فرنسا! أم تحاول أن تحلم يوما لو تستفيق فلا تجد في ماضيها وفي تاريخها أيّ أثر لسنوات الاحتلال الألماني لفرنسا وقبول الفرنسيين به وتعاملهم معه، أو تجد هذه القلّة القليلة التي قاومت المحتلّ والمتعاملين معه، وهي التي يريد الخطاب الفرنسي الرسمي أن يخلّدها ويلقّنها للأجيال التي لم تعايش هذه الفترة المخزية في تاريخ الفرنسيين.
وكيف تطلب فرنسا اعتذارا وتعويضا من ألمانيا على احتلالها بينما المشكلة هي فرنسية – فرنسية بالأساس هذه المرّة؟ وحتّى لو لم تكن كذلك، ولو فرضنا أنّ المسألة مرتبطة بمطالبة فرنسية لاعتذار ألماني..ألم تتّعظ فرنسا من تجربتها في الحرب العالمية الأولى عندما فرضت مطالبها عقب الحرب والمتمثلة في تعويضات مشطّة للغاية ومهينة لكرامة الألمان المهزومين في هذه الحرب، واقتطعت حتّى مناطق ألمانية ولم تكتف باسترجاعها للألزاس واللورين، فكان هذا الإمعان في إذلال الألمان سببا أساسيا في اصطفافهم وراء الهتلرية والفكر النازي بحثا عن كرامة سُلبت فتُسترجع ومهانة وَقعت فتُرفع وذلّ حدث فيُمحى، وهذا ما تمكّن منه الألمان في الحرب العالمية الثانية إذ «سحقوا» فرنسا في أسابيع ولم يتمكّن الفرنسيون من الصمود أمامهم، فكان أن تمسّكوا بحبل النجاة البيتاني- نسبة إلى الماريشال بيتان- لعلّه يحفظ بعضا ممّا فقدوه ولو كان ثمنه التعامل مع المحتلّ!
سيّدي الوزير،
في ظلّ ما حدث، هل يعقل أن تطالب فرنسا ألمانيا ومرّة أخرى تعويضا واعتذارا خاصّة وأنّ المشكلة هذه المرّة داخل فرنسا أكثر منها خارجها؟ وخاصّة أيضا أنّ فرنسا منذ التحرير في صيف 1944، تحرير الحلفاء لها – أليس كذلك؟- وهي تتخبّط في أزمات سياسية ووزارية أنتم أدرى بها منّا، ثمّ اقتضت ضرورات الحرب الباردة أن تتعامل فرنسا، التي استوعبت دروس الحرب العالمية الأولى والثانية، مع ألمانيا الغربية في مواجهة ألمانيا الشرقية...
سيّدي الوزير،
كما ترون، لا يمكن أن تستوي المقارنة بين تعرّض فرنسا للاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية وضرورة المطالبة بالاعتذار من عدمها على وقع ما ذكرناه وبين ما تعرّض إليه التونسيون طيلة 75 سنة من نهب واستنزاف واحتلال وتشريد وقتل وقمع...فرنسي.
وأريد أن أؤكّد أنّ هذه المطالبة التونسية هي رغبة في تجاوز الماضي وضغائنه، وأنتم الأكثر أهلية لمعرفة ما تعني كلمة ماضي والرغبة في تجاوزه على وقع «سنوات فيشي السوداء»، وهي رغبة من شعوب المغرب العربي، وليس من تونس فقط وأنتم الأكثر معرفة بذلك خاصّة بالنسبة إلى الجزائر، في إعادة الاعتبار إليها.
كما يعني ما تقدّم، أنّ كلّ بلد له ذاكرته الجماعية الخاصّة به وهو حرّ في كيفية مقاربتها والتعامل معها وفق تفاعلات خاصّة به وعلى وقع المستبطن والمستدرك والظاهر من هذه الذاكرة الجماعية، أليس كذلك سيّدي الوزير؟
سيّدي الوزير،
إنّ الذي استفزّني أكثر في تصريحكم هو تساؤلكم الذي لا أعتقده بريئا بخصوص الجهة التي تقف وراء اغتيال فرحات حشاد وهو الآتي كما نُقل عنكم ولم تنفوه:» اغتيال حشاد! اليد الحمراء أم اليد السوداء»، وذلك لأنّني أدركت بحكم تخصّصي ما تقصدونه من وراء هذا التساؤل وهذا ما أثارني حقيقة ووددت لو لم تصرّح به علنا حتّى وإن كنتم تعتقدونه.
سيّدي الوزير،
ألم تردّدوا في تساؤلكم هذا ما كانت تعمل أجهزة الأمن الفرنسي بمختلف تشكيلاتها الاستخبارية خاصّة على نشره بين التونسيين منذ آخر سنة 1952 إثر اغتيال ذراعها الضاربة وهي هنا «اليد الحمراء» لكلّ من الشهيد فرحات حشاد والشهيد الهادي شاكر والشهيدين الإخوة حفّوز..؟ ألم تبذل هذه الأجهزة الفرنسية جهدا استثنائيا في إلصاق تهمة هذه الاغتيالات «القذرة» بالوطنيين التونسيين وتحديدا بالحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف؟ وها إنّكم تكرّرون، عن غير قصد، ذات هذا الجهد الماضي في «الإيقاع» بالتونسيين حتّى تصبح هذه المسألة إذّاك واليوم تونسيةتونسية، وبالتالي، يتناحر التونسيون زمنئذ في ما بينهم ويتركون فرنسا لحالها منيخة بكلكلها على بلادهم وجاثمة عليها وعلى أنفاسهم.
ألم تقولوا هنا بأنّ ما يحدث من حراك في تونس للمطالبة باعتذار رسمي فرنسي على الحقبة الاستعمارية وبفتح ملفّ الاغتيالات الفرنسية «القذرة» بحقّ قيادات وطنية ، هو «نقاش تونسيتونسي»، فهل أنّ تونس هي التي احتلّت تونس؟!!
وتتوضّح الصورة أكثر، سيّدي الوزير، عندما تتساءلون عن اليد التي تقف وراء الاغتيال هل هي حمراء وبالتالي فرنسية أو سوداء وبالتالي تونسية؟ وهنا كأنّكم تلمّحون أو تقصدون فعلا أنّ من اغتال فرحات حشاد هي «اليد السوداء» التونسية وبالتالي، كأنّكم تقولون لنا كفّوا عن طرح اسم «اليد الحمراء» السرّية وابحثوا عمّن قتل فرحات حشاد من عندكم أنتم أي التونسيين!
سيّدي الوزير،
كيف يمكننا أن نساوي بين جهاز أمني سرّي فرنسي اسمه «اليد الحمراء» ومهمّته القيام بالعمليات «القذرة» اللاقانونية واللاأخلاقية التي تستهدف أناسا لم يكن ذنبهم الوحيد إلاّ المطالبة بحرّية شعبهم، وبين منظّمة سرّية وطنية «اليد السوداء» التي تكوّنت سنة 1941 لأوّل مرّة وتكفّلت ببعض العمليات التخريبية وإلصاق المناشير، ثمّ أعيد إحياؤها من جديد سنة 1952، سنة الثورة التونسية التحريرية، وكانت مهمّتها استهداف رموز الاحتلال الفرنسي بتونس من جنود ورجال أمن ومعمّرين والمتواطئين معها من التونسيين، تماما مثلما كانت المقاومة الفرنسية الأصيلة تقوم به ضدّ الاحتلال الألماني ورموزه من المتعاملين معه من مناصري الماريشال بيتان وحكومته في فيشي، وبالتالي، كيف يمكننا إذن أن نساوي بين الإرهابي «الأحمر» والمقاوم «الأسْود»؟ وهنا كأنّكم قلتم لنا ساووا بينهما مثلما ساوينا في فرنسا بين الإرهابي الغستابو الألماني أو ميليشيات فيشي المتعاملة معه وبين المقاومة الفرنسية لهما! أليس كذلك سيّدي الوزير؟
سيّدي الوزير،
هل تقصدون بتساؤلكم هذا أنّ الوطنيين متورّطون في اغتيال الشهيد فرحات حشاد؟ هل تضعون في ذات قدم المساواة من ناضل من أجل وطنه ومن احتلّ البلاد؟ هل تريدون أن تؤكّدوا من خلال تساؤلكم الرواية الفرنسية لزمنئذ بأنّ الوطنية التونسية هي وراء اغتيال حشاد حتّى تبرّئوا أبناء بلدكم فرنسا ورموزكم الوطنية من دم هؤلاء الشهداء، وذلك بمحاولة زرع «البلبلة» مرّة أخرى كما زرعت منذ آخر سنة 1952 وأحياها أحد عناصر اليد الحمراء ميليرو سنة 1997 في كتابه، وواصلها في برنامج بالجزيرة الوثائقية عرض مؤخّرا، هذا ميليرو الذي مكّنه عمّكم الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران هو وغيره من «الجنود الضائعين» من عفو إثر انتخابه رئيسا سنة 1981 لست أدري إن كان هذا العفو يشمل الحصانة القضائية أم لا؟ كما مكّنهم من الإفلات في تونس سنة 1956 على متن طائرة خاصّة إلى فرنسا عندما كان وزيرا للعدل في ظروف غامضة نرجو لو يُفتح أرشيفها يوما حتّى نفهم حقيقة ما حدث بالضبط !
سيّدي الوزير،
هنا بالذات، وفي هذا التصريح بالذات، الذي أدليتم به إلى جريدة «الشروق» التونسية، وأنتم الذين تحبّون بلادنا، وددت لو كنتم شارل أندري جوليان، أو ألان سافاري أو روبار فاردي أو دانيال قيران، الذين لم يتوانوا جميعهم في رفع إصبع الاتّهام في اغتيال الشهيد فرحات حشاّد إلى الأجهزة الفرنسية الرسمية وعلى مستويات عليا، ألا يعبّر هؤلاء الفرنسيون عن «ضمير فرنسا الخالدة»، التي أحببناها وعشقناها لا فرنسا الاستعمارية التي نمقتها ونكرهها، فرنسا الاستثناء، وددت من كلّ قلبي لو كنت امتدادا لهؤلاء الأحرار لا امتدادا لأولئك الاستعماريين حتّى يزداد حبّنا لكم ونكبر فيكم مواقفكم المشرّفة إزاءنا تماما مثلما أكبرنا مواقف رجالات أحرار وقفوها في فترة حرجة للغاية وأصدعوا بها، بالرغم من إمكانية استهدافهم على يد الأذرع السرّية الفرنسية التي كانت نشطة للغاية زمنئذ، أليس كذلك سيّدي الوزير؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.