(1) بدأت مدينة الثقافة تتجلى وتظهر وبدأت ملامحها تتشكل للعيان لتجسّم مطمحا لطالما حمله الكثيرون من أجيال المثقفين والمبدعين والحالمين بحياة فكرية ثرية ومنظمة وعلى قدر ما لبلادنا من عراقة في التاريخ وإرادة في التطوير والتحديث. وفي بروز هذه المدينة من أرض المشروع إلى فضاء الواقع ببناءاتها الشامخة وهندستها الجسورة وفي مدتها المحددة، ما يثبت حقيقتين اثنتين لا مناص من ذكرهما هنا: أولاهما جماهيرية هذا النظام المنصت دوما لطلبات شعبه والمتناغم مع تطلعات نخبه، وثانيتهما فاعلية قراراته وانجازية برامجه، حتى أن سرعة تحقيق الطلب قد تفاجئ أحيانا انتظار الطالب. (2) أطلّت إذن مدينة الثقافة تواجه في شموخ وتحدّ المؤسسات البنكية التي تحف بشارع محمد الخامس ولكأن في ذلك تذكرة لمن نسي أن لا قيمة لهذه دون تلك، فالثقافة والاقتصاد صنوان لا يفترقان لا يستقيم أحدهما دون الاعتماد على الآخر. الثقافة تكمّل عمل التعليم وتتمّ فعل التربية فتنير العقول وتفجّر الطاقات وتهيئ لظهور الإنسان القادر المبدع الصانع للخيرات والباني للاقتصاد، والاقتصاد القوي يُثبّت الثقافة وينمي دورها في التهيئة لظهور الانسان القادر... وتلك هي الدائرة الحميدة التي يصبو كل شعب واع إلى الدخول فيها. (3) أطلّت مدينة الثقافة مسرعة متقدمة عن ميعادها كأنها باكورة فاجأت مزارعيها. المزارعون هم طبعا رجال الفكر والثقافة والفن. لم نر منهم إلى اليوم أحدا يتساءل عمّا ستكون عليه مدينة الثقافة من تنظيم وتخطيط يجعلانها قادرة على تحقيق هذا المشروع المنزّل في تسميتها. لم نر أهل الثقافة والابداع يبادرون بتنظيم حلقات التفكير والمطارحة حول أنجع السبل وأقوم المسالك لتعمير هذه المدينة الموعودة للفكر والروح بما يجعلها مقصدا للتثقف ومركزا للانتاج ومنارة للإشعاع، ولم نسمعهم يقترحون التصورات والمقاربات الكفيلة برفع هذه المدينة الفاضلة إلى مستوى ما سخرته السلطة من إمكانات هائلة لإنشائها. ألهذا الحدّ تعوّد المثقف الانتظار عندنا فنسي السعي؟ (4) إن إنجازا مثل مدينة الثقافة كما بدا يتراءى من بين أيدي المقاولين إنما هو مشروع تاريخي لا يمكن أن يستخف بالاعداد له بما يستوجب من جدية وما يتطلب ذلك من رأي عميق وتشاور بناء مستفيض وإن لنا من التجربة والدربة في الاستشارة سواء القاعدية منها أو القطاعية النخبوية ما يجعلنا نطمئن إلى ما سوف نجنيه من حسن النتائج لو فتحنا باب التفكير حول تأثيث مدينتنا. إن ما نخشاه هو أن يداهمنا الوقت فنتسرّع في تهيئة مدينة الثقافة على شاكلة مدننا الحالية التي هي أقرب إلى القرى الثقافية: ارتجال في البرمجة وتقطع في نسق الانتاج وغياب للتأطير وبحث عن السهل.. وعزوف من الجماهير. زمنها ستكون مدينة الثقافة مجرّد مجمّع لقرى. وإن ما يثير خشيتنا كذلك أن نسقط في مدينتنا الثقافية ما لا يمت لواقعنا الثقافي بصلة كأن نبني أوبرا والحال أن إذاعاتنا وتلفزاتنا تبذل كل جهودها لتثبت لنا كل مساء أن موسيقانا الوطنية هي ما تشيعه في ساحاتنا العمومية حناجر «المزاودية». (5) المدينة اذن ليست المشكلة. إن المشكلة هي الثقافة. لنعمل على تصوّر مدينتنا الثقافية حتى نتملكها ونستأثر بها لأنفسنا.