عُرف الإنسان العربي منذ القدم بأنه صاحب أنفة وعزّة نفس وكرامة شخصية يأبى الظلم ويرفض المذلّة والمهانة ويستنكف من التسول ومد اليد إلى الآخرين استجداء واستعطاء وفي قاموس العربي أن السؤال مذلّة ولو إلى أين الطريق؟؟ وفي نطاق هذه المعاني يحدثنا تاريخ الأدب العربي والإسلامي أن أعرابيا على عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عضّه الفقر بنابه وأصبح لا يملك من حُطام الدنيا شيأ بعد أن باع كل ما يملك وأصبح مظهره يدلّ على مخبره، ولكنه حافظ على ماء وجهه فلم يبعه إلى الغير معتقدا أنه لو مد يده بالسؤال لباع ماء وجهه وفقد حياءه وبالتالي كرامته، وبعد تفكير عميق قرّر أن يتوجه إلى المدينةالمنورة ويسأل أمير المؤمنين حاجته، ولما وصلها كان الإمام علي كرّم الله وجهه جالسا على الأرض بضواحي المدينة في انتظار أخبار تأتيه عن الجيش الإسلامي المتواجد في إحدى المعارك الجهادية وما إن وقف هذا الأعرابي أمام خليفة المسلمين وسلّم عليه بتسليم الخلافة حتى انحبست الكلمات في حلقه وكبُر على نفسه أن يسأل ويستجدي فخطّ بعصاه على الرمل هذين البيتين مخاطبا وسائلا وبائعا ماء وجهه: لم يبق عندي ما يُباع بدرهم تُنبيك حالةُ منظري عن مخبري لا بقيةُ ماء وجه صُنته عن أن يباع وقد أبحتك فاشتر وما إن قرأ أميرُ المؤمنين البيتين حتى أقبل عليه من يُبشّره بأنّ جند المسلمين قد انتصر وغنم وأن نصيب الخليفة محمول على خمسة جمال هي الآن بمداخل المدينة فقال كرم الله وجهه: هي هبة لهذا الأعرابي وأنشد مخاطبا له ومطمئنا لقلبه ومبينا له أنه لم يبع ماء الحياء وأن أمير المؤمنين لم يشتره منه. وافيتنا فأتاك عاجلُ برّنا فاهنأ ولو أمهلتنا لم نقْتر فخذ القليل وكن كأنك لم تبع ماءَ الحيا وكأننا لم نشتر هكذا تكون عزة النفس وهكذا يكون الجودُ والكرمُ، وهكذا نتخلق بأخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أُثرَ عليه قوله (ارحموا عزيز قوم ذلّ).