يعتبر علم المعجمية «Lexicographie» من العلوم العربية الاسلامية المتقدّمة التي برزت في وقت مبكّر من حضارة العرب والمسلمين ولئن مرت هذه الحضارة بأطوار ثلاثة: التدوين والتجميع في القرن الاول الهجري التأليف والترجمة منذ القرن الثاني... التنظير والمقارنة منذ القرن الخامس، فإن نشأة التأليف المعجمي وتطوّره وبلوغه مدارك النضج قد استنفد أو يكاد حصته الزمنية فيما بين القرنين الثاني والرابع ذلك ان الخليل بن أحمد الذي وضع كتاب العين أول معجم عربي مرتبا على مخارج الحروف قد توفي سنة 175 ه ثم الجوهري واضع معجم الصحاح عاش في القرن الرابع الهجري حتى سنة 370. أما ترتيبه فهو يخضع للمواد المؤلفة من الحروف الاصلية للالفاظ قبل ان تتغير بنيتها الصرفية بالتذكير والتأنيث والتثنية والجمع والزيادة والاشتقاق. ففي باب الالف المهموزة نجد مثلا كل المواد التي تنتهي بهذه الالف وهي مرتبة فصلا فصلا حسب الترتيب الابجدي فيما يخص حرف الابتداء ففي فصل الالف نجد مادّة أبأ أوأ وفي فصل الباء: بأبأ بدأ بدأ برأ وفي فصل التاء تأتأ ثنأ وهكذا... لقد لخص الفارق الجوهري بين المعجمين احمد عبد الغفور عطار محقق الصحاح بالتعاون مع عبد السلام هارون في قوله: «كان تأليف الجوهري صحاحه خطوة جديدة موفقة في تأليف المعاجم العربية، وفتحا جديدا في عالمها ولو أن مؤلفي المعاجم سلكوا سبيل الخليل وابن دريد والازهري ثم ابن سيدة لكانت المعاجم العربية عذراء لا يفتضّها الا الراسخون في العلم الذين يعدّون على الأصابع، ومن هنا تظهر قيمة الجوهري الذي ابتكر طريقة جديدة لم يسبق اليها «...» وزوّدت الكبار بثروة لغوية تقدّر بأربعين الف مادة»«1» اعتبر الصحاح فتحا في علم المعجمية وأفسح المجال لحركة نشيطة من التأليف في هذا الغرض، فقد «كان لظهور الصحاح بهذا الوضع الذي لم يألفه الناس» من قبل، وهو الوضع الذي مكّن لهم ان يطلعوا على اللغة في سهولة ويسر، أثر جليل في اقبال العلماء على هذا الكتاب قراءة ودراسة، وتحقيقا ونقدا، وتذليلا وتعليقا، فأحدث بذلك آثارا جديدة قوية في التأليف اللغوي»«2» تمثلت في وفرة الشروح والتعليقات وانتشار مختصرات هذه المدوّنة اللغوية. ولنا ان نذكر في هذا العدد اثرين جليلين هما «التكملة والذيل والصلة» وهو المعروف بالتكملة جمع فيه الامام ابو الفضائل رضى الدين الحسن الصغاني «577 650» «ما أهمله الجوهري من نحو ألف كتاب في غريب القرآن والحديث واللغة والنحو وأخبار العرب وأيامهم وأشعارهم وحيوانهم وأسلحتهم وغير ذلك، والتكملة خير ما ألّف حول الصحاح وتكملته واصلاح خلله، ونقد مواضع كثيرة في الصحاح وتحقيقا، واستدراك ما أغفله الجوهري، وهو أكبر حجما من الصحاح، ويضم ستين الف مادة، والتكملة من أمهات كتب اللغة»«3» أما الكتاب الثاني فهو «مختار الصحاح» الذي ألفه شمس الدين أبو بكر الرازي وهو أسير المختصرات ذكرا، وأكثرها تداولا، وقد فرغ من تأليفه سنة 760» «...» لقد ظفر «مختار الصحاح» بشهرة كبيرة في عصرنا الحاضر، ومرد هذا الى غير سبب واحد، فهو معجم ضم من صحيح اللغة وفصيحها طائفة صالحة يحتاج اليها طلبة العلم، ومع هذه الميزة فإنه اول معجم صغير تنشره المطبعة العربية وهو من غير شك من غير المعاجم الصغيرة الموثوق بها، ولا غنية لأحد عنه، فهو صالح لأن يحتل مكانا مرموقا في مكتبة الاديب، والشاعر، والعالم والفقيه، والمحدّث، لأن فيه ما لابد منه لكل هؤلاء». ولم تنته قيمة معجم الصحاح عند هذا الحد بل تجاوزته الى ما حظي به الكتاب من اهتمام المترجمين الى لغات الشعوب الاسلامية المعنية باللغة العربية بصفه لغة الكتاب والسنة. ونجد في مقدمتها اساسا الفارسية والتركية، هذا فضلا على ما كان لمنهجه الترتيبي من تأثير في صدور مدوّنات لغوية اخرى لعل ابرزها «لسان العرب» لابن منظور الافريقي التونسي الذي انتهج نفس المسلك بعد ان هذّب المحتوى وأثرى رصيده اللغوي والمعرفي كما فصّل القول في موادّه تفصيلا بما يجعل كتابه اقرب الى الموسوعات اللغوية والحضارية الحديثة المنفتحة للاثراء والتطوّر من طبعة الى أخرى.