واحدًا بعد الآخر أخذ أنصار الحرب على العراق يعترفون بأنّهم كانوا كاذبين في مبرّراتهم مخطئين في حساباتهم. ولن يكون آخرهم مايكل وود كبير المستشارين القانونيّين السابق في مكتب وزير الخارجيّة البريطانيّ، الذي صرّح أخيرًا أمام لجنة التحقيق في مشاركة بريطانيا في الحرب على العراق، بأنّ تلك الحرب كانت «غير مشروعة». الغريب أنّ هذا الكلام الذي يبدو جميلاً ومعقولاً، لا يصدر في أغلب الأحيان إلاّ عن الجهات التي تؤثّم الحرب الوحيدة «المشروعة»: حرب مقاومة الاستعمار ومقاومة الاستبداد. ممّا يعني أنّ هذا الكلام الجميل المعقول ليس في حقيقة الأمر سوى جزء من تكتيك قديم جديد مُعاد مُستعاد، يتمثّل في ارتكاب الجريمة لتغيير الحقائق على الأرض، ثمّ الاعتذار بعد ذلك ولو عن طريق أكباش فداء يُراق دمها على مذبح التشدّق بيقظة الضمير وحبّ العدل. ممّا يذكّرني بعبارة لتولستوي، الذي لم يعوّل على خياله المجنّح ليكتب رائعته «الحرب والسلم»، بل كتب عن خبرة ومعاينة بعد أن التحق بالجيش الروسي سنة 1951 وخاض معارك القوقاز وكان أحد المدافعين عن سباستبول واستمدّ من كلّ ذلك رافدًا عميقًا لمحاولة فهم الذات والناس والحياة. أغلب الظنّ أنّ تولستوي لو عاش معنا اليوم لغيّر عنوان روايته، مكتفيًا بكلمة الحرب. فهي سيّدة المشهد التي من أجلها يهون كلّ عزيز وتُسخّر الأموال والطاقات بسخاء وحماسة لا حدود لهما. 811 مليار دولار كلفة الحرب في العراق وأفغانستان وفق بعض التقديرات. مبلغ يكفي عُشُرُهُ لمعالجة مشاكل البنى التحتية والفقر والتعليم والصحّة لعشرات الملايين من البشر. في بداية الرواية، يقول بيير، وهو إحدى الشخصيّات الرئيسيّة ولعلّه الأقرب إلى أن يكون قناعًا لتولستوي نفسه: «لكي ننشر الحقيقة ونحصل على انتصار الفضيلة، يجب أن نستأصل من الناس المعتقدات الفاسدة وأن نعنى بتثقيف الناشئة ونرتبط بصلات لا تنحلّ عُراها مع ذوي العقول المستنيرة ونخذل الخرافة والحماقة بحكمة وجرأة... » عبارات جوهريّة، على الرغم من أنّ الشيطان سكنَ تفاصيلها أكثر من مرّة وفق القراءة والتأويل. وهي عبارات تتكرّر منذ قرون وكأنّها «وصايا مغدورة» لا يبدو على العالَم أنّه وضعها نصب عينيه يومًا أو حاول العمل بها لحظة. حتى كاد تاريخ البشريّة يُختَزل في تاريخ حروبها. وها نحن بعد ملايين الضحايا نفتتح عشريّة جديدة في مطلع قرن جديد وكأنّنا نعيد الفيلم نفسه: نتشدّق بالعقلانيّة والحكمة والرشد والعلمانيّة وتجاوز الإيديولوجيات والقوميّات والدوغمائيّات، وفي الوقت نفسه، نشعلُ عددًا غير مسبوق من الحروب الوحشيّة البشعة المتستّرة بشتّى التعلاّت لتجربة الجديد من الأسلحة الممنوعة والمحرّمة والأشدّ فتكًا: لا مكان في الكوكب إلاّ وهو فريسة لحرب بين استعمار ومقاومة أو بين دول وجيرانها أو بين دول وعصابات أو بين قبائل متناحرة أو بين شعوب وأنظمة. بدايةً من الطغم العسكريّة الأمريكيّة وأحفاد هنودها الحمر وعصابات مخدّراتها، مرورًا بجورجيا وروسيا والشيشان هذا إن لم نتحدّث عن تواصل الاحتقان في البلقان وفي بلاد الباسك وغيرها، عطفًا على ما يحدث على تخوم أنغولا وفي غابات الكونغو ونيجيريا وفي شوارع الصومال وفي جبال اليمن وفي لبنان، وصولاً إلى تيمور وتايلندة والكوريتين والمسألة التيبيتيّة وما يحتدم بين الهند والباكستان وما ينذر به الصراع مع إيران، دون أن ننسى طبعًا المثلّث الناريّ: فلسطين والعراق وأفغانستان. نفسُ الدوافع التي أخذتنا إلى الحرب في ماضينا تواصل دفعنا إلى الحرب في حاضرنا وكأنّنا كائنات لا تاريخيّة تحتكم إلى غريزة عدوانيّة واحدة، قوامُها الحاجة الاقتصاديّة والبحث عن شغيلة مستعبدة ورخيصة وعن أسواق أكبر وأطوع والرغبة في التوسّع والهيمنة والحرص على امتلاك الطاقات والثروات ووضع اليد على مصادر النفط والماء والمعادن النادرة النفيسة. ومن أجل هذه الدوافع يتمّ تطويع كلّ شيء: بداية من الدين والميثولوجيا وصولاً إلى الفكر والإيديولوجيا. وها نحن نوظّف أخيرًا الرياضة، وتحديدًا كرة القدم التي أصبحت حربًا بكلّ ما في الكلمة من معنى. فما فائدة مظاهر الندم إذنْ، وما فائدة دموع التماسيح، إذا كانت لا تغيّر شيئًا من غلبة الحرب على السلم؟